يموت الحمار ولا ينكسر النحو

2015-12-04 10:35
يموت الحمار ولا ينكسر النحو
شبوه برس - خاص - المكلا

 

ما أكثر الذين يكسرون النحو في هذا الزمان، وكثيراً ما يعتذر الكثيرون لسيبويه - تطوّعاً- عما يقترفه غيرهم اليوم من أخطاء نحوية كتابياً أو شفاهياً، وربما يكون بين أولئك المعتذرين من يكسر رأس سيبويه من حيث لا يشعر، إذ يقع في ما وقع فيه غيره من زلل نحوي، يعتذر بسببه آخرون عنه لسيبويه، فإذا بنا إزاء متوالية اعتذارات نحوية، يبدو فيها شيء من زهو ذاتي، في نبرة المعتذر عن أخطاء غيره أو أغلاطهم.

عنوان هذا المقال مثل شعبي حضرمي متداول، ولعل منطوقه يوحي بأن قائله أحد النحاة الحضارمة أيام كانت الحمير وسيلة النقل المتاحة، ولعل حادثة معينة ارتبطت بالحمار والنحو، ولما خُيّر بين موت الحمار وانكسار النحو، كان اختياره لا لبس فيه، ولا مواربة، تماماً كما هم النحاة: انضباط في القول، والتزام صارم بالقواعد، حيث لا محيد ولا محيص عن سلامة اللغة، وعدم الاستهانة بنحوها.

 

وبدهي أن ذلك النحوي الحضرمي ( أو المفترض ) ليس مادياً - إن كان الحمار حماره هو- فهو يفرّط به، في سبيل استقامة اللغة العربية، لغة التنزيل الحكيم، وهو مثالي جداً، وغير مشغول بأحوال أهل زمانه ومعاشهم ومصالحهم الاقتصادية- إن كان الحمار حمار غيره- وهو لذلك غير معنيّ بما سيلحقه من أذى مادي بصاحب الحمار، وعائلته، وأسطول الحمير في بلدته حينئذ. فإن كان الحمار حمار ذلك النحوي الحضرمي، فإن مثاليته تدفع عنه صفة كثيراً ما وصف بها كثيرون غيره في نواح شتى من حضرموت، فالحرص الشديد (وربما البخل أحياناً) صفة لازمة، ولذلك أسبابه التاريخية، أوالاقتصادية، أوالنفسية، أوالتربوية، وربما الدينية بحسب تخريجات بعضهم بفاعلية النهي عن الإسراف وماجاوره معجمياً في الحقل الفقهي.

 

وإن كان الحمار حمار أحد أفراد مجتمعه، فإن هذا النحوي مثالي أيضاً، من حيث أنه يغلّب الضبط النحوي، على وظيفة الحمار، وقيمته المادية التي تعادل في أيامنا هذه قيمة سيارة ما من موديل شائع في الطرقات، من حيث الوظيفة، كسيارات الأجرة أو النقل العام.

 

تلك قراءة افتراضية لمنطوق المثل الشعبي الحضرمي "يموت الحمار ولا ينكسر النحو"، لكن المثل يذهب في اتجاه آخر لا صلة له بنحوي حضرمي، ولاسبيل إلى استدعاء عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي بلغ الغاية في النحو حتى قال فيه يونس: هو والنحو سواء، ولاسبيل أيضاً لاعتذارٍ لسيبويه، أو الكسائي، أوالخليل، أو ابن عقيل، أو ابن هشام، أو الفارسي، أو ابن يعيش، مثلما لاسبيل لحديث عن مدارس النحو العربي- إن جاز الحديث عن مدرسة بصرية، أو كوفية، أو بغدادية، أو أندلسية، أو مصرية - فـ( نحو) هذا المثل غير نحو أولئك الأعلام ومدارسهم؛ يقول الأستاذ محمد عبدالقادر بامطرف في معجم الأمثال الحضرمية: النحو: الجوبة الكبيرة المصنوعة من الفخّار، تستعمل لوضع القماش فيها، ثم صَبّ صباغ النِّيل عليها، وتحريك القماش بقوة، بعود متين، حتى يتشرّب القماشُ الصباغ.

 

و حكاية المثل - كما هي في كتاب معجم الأمثال- أن أحد الصبّاغين حمّل على حمار ركيك الحال (نحو) النيل الثقيل، لنقله من قرية إلى أخرى، وكان كلما لامه العابرون على تثقيله على الحمار، يرد عليهم بقوله: "يموت الحمار ولا ينكسر النحو"، وكانوا يقولون له:إن من الخير له أن يحمل (نحوه) على بعير؛ لئلا يسقط الحمار من التعب فيموت، وعندئذ سوف يخسر الحمار والنحو معاً؛ لأن النحو سوف ينكسر لا محالة من وقوعه على الأرض.

 

ولأن الصبّاغ كان لا يزيده لوم الآخرين إلا مكابرة على مكابرة، فقد سقط الحمار وانكسر النحو، فندم الصبّاغ ولات حين مندم، وذاك مضرب المثل لمن يتمادى في الخطأ كلما نصحه آخرون بالإقلاع عنه؛ لأنه- كما يقول الأستاذ بامطرف- من الذين يزعجهم توجيه النقد إلى تصرفاتهم حتى لو أدى تشبثهم بسوء تصرّفهم إلى خسارة محققة لهم.

 

ماتت حمير كثيرة وليس حماراً واحداً، منذ ذلك الحين، وانكسرت أنحاء شتى وليس (نحو) ذلك الصبّاغ المكابر، ومازال في الشعوب مكابرون يرددون مثله: "يموت الحمار ولا ينكسر النحو"، ثم ينكسر نحوُهم هم، ولا تموت الشعوب.

 

د. سعيد الجريري