■ كانت صدفة .. لا كما قال شاعر حضرموت السيد : حسين ابوبكر المحضار : اللقاء قد كان صدفة لا رع الله الصدف ، بل كانت صدفة يا رعى الله الصدف .
كانت الساعة بين الرابعة و الخامسة من مساء يوم خميس من عام 1997عندما غادرت مع احد الاخوة منزل الاخ السيد : عبدالرحمن علي الجفري ـ رئيس حزب الرابطة ، القريب من شارع النيل في القاهرة ، لنوافيه الي منزل احد زملاءه في الكلية الحربية ، واحد قادة الجيش الثالث المصري ـ الشهير بحصار قوات الجنرال شارون ـ الإسرائيلية له في حرب 1973 في المقطم ، حيث سيعقد مولد نبوي يحيه ابنه السيد : علي زين العابدين الجفري .
ودعنا الزعيم الجفري و الحبيب : علي ، على موعد اللقاء في المقطم ، لم نأخذ التاكسي الي مدينة اكتوبر و قررنا السير الي فندق الشيراتون ، لتناول بعض المرطبات و من ثم الذهاب الي المقطم ، كنا نتجادل حول عامل الوقت وضرورة تغيير الملابس ، حين اشار صديقي الي رجل يسير على الرصيف المقابل و هو يقول : هيكل، محمد حسنين هيكل .
كنت قبل ايام من تلك الصدفة .. قد اشتريت كتابين لهيكل محاضره له في معرض الكتاب عام 94قرأتها وشرعت في قراءة كتاب ( مقالات يابانية !) عبارة عن مجموعة مقالات كتبها لصحيفة يابانية .
ومن غير ان نفكر في من يسيرون خلفة ؟ قطعنا الشارع اليه ، ونحن نردد استاذ : هيكل استاذ هيكل لكي يتوقف ، الا انه استمر في السير في الوقت الذي انطلق في اتجاهنا شخصان ليوقفانا قبل بلوغ الرصيف .. يومها لم تكن عمليات القاعدة الانتحارية قد اصبحت تورق امن الوطن العربي ، و مازالت اعمال التخريب و التفجير في بداياتها في مصر كذلك المملكة العربية السعودية ، التي فاجأتها تفجيرات العليا 1995و الخبر 1996، اما في مصر فكانت عمليات الاغتيالات التي راح ضحيتها عدد من اهل الفكر و السياسة مثل الشيخ الذهبي و فرج فودة ورفعت المحجوب و غيرهم في مطلع التسعينات فلم تتجاوز عمليات الاغتيالات و ان كانت مهاجمة السياح في الاقصر هي اعنفها بعد عملية اغتيال الرئيس : انور السادات ـ يرحمه الله ،و فشل عملية اغتيال الرئيس : حسني مبارك في أديس أببا عام 95، كل تلك العمليات كانت تنفذ باسم جماعات الجهاد لا القاعدة .. فضلا عن "داعش" التي لم تكن قد وجدت ولم يكن العراق قد احتل او سلم الي ايران .
لذلك لم يتبادر الي اذهاننا ان الاستاذ : هيكل يتريض على شاطئ النيل في حماية حراسة ، الا عندما اعترضونا حراسه ، ليلتفت الينا ويشير لهم بتركنا نأتي اليه و نسلم عليه ـ بحرارة وهو يردد اهلا بيككم الاخوان يمنيين ؟
ـ نعم استاذ .
* من أي اليمن انتم ؟
ـ من الجنوب .
*بتعملوا ايه في القاهرة ؟
ـ رددت عليه القاهرة عاصمة العرب و لا نشعر فيها الا انها بلادنا ؟
*آه من الجنوب .. ضحك عليكم الشاويش ؟ قالها ومشاء وسرنا الي جانبه في الاتجاه المعاكس لوجهتنا ونحن نتحدث عن الرئيس ـ الشاويش ، وقال : في معرض حديثه ضحك عليكم بالوحدة و ضحك بآه في الحرب .. استمر في سيره و استأذناه في الانصراف ، وهو يودعنا بحرارة و يقول : امل ان تكون حربكم الاخيرة ؟!
□ ركبنا تكسي الي 6اكتوبر .. وخلال الطريق دخلت مع صديقي المعجب بهيكل الي درجة التقديس في جدال طويل ، حول كتابه "خريف الغضب " الذي ابديت ملاحظات على بعض ما ورد فيه ، و على ما اورده في كتابه " مدافع آيات الله " وقلت لصاحبي انا لا اتقبل كل ما يكتبه هيكل ، خصوصا وان الرجل يعتمد على هالته و يستند على تاريخه مع الرئيس : عبدالناصر ـ يرحمه الله ، فضلا عن علاقاته بالمؤسسات الاعلامية البريطانية و الامريكية ، و لا اشكك في كونه كاتب و مفكر كبير، وان تحفظت على مواقفه القومية و أراءه السياسية .. الا ان صديقي لم يتوقف عن محاولة اقناعي برأيه في هيكل ، حتى بعد ان قدمت له محاضرته في معرض الكتاب وانا اغير ملابسي لذهاب الي المولد في المقطم .. ومن السكن الي التاكسي الي منزل اللواء المضيف حيث استقبلنا السيد : عبدالرحمن علي الجفري وافسح لي في الجلوس الي جانبه ، وسط ذلك الحضور ، المتلهف الي سماع الحبيب زين العابدين الجفري .. لم يفارقني لقاء الاستاذ: هيكل كما لم تفارقني نظرات صديقي التي اراء فيها اللوم لي ، لقبول الدعوة لحضور المولد .
□□ اليوم ودعت مصر الأستاذ : محمد حسنين هيكل .. صديق الملوك و الرؤساء و الكاتب الذي عزله السادات عن رئاسة تحرير الاهرام ليتحول الي مؤسسة في حجم الأهرام.. ولكن عبر مؤسسة اعلامية بريطانية توزع مقالاته على اكثر من 12 صحيفة كبرى ، وبلغات مختلفة مقابل 3.00ج.استرليني للكلمة .
رحل الاستاذ الكبير الذي قال في احد مقابلاته التلفزيونية (المسبح فارغ ويحتاج الي من يملأه !!) في اشاره الي عدم وجود قيادة عربية ـ محورية ، كان ذلك اللقاء قبل ثورات الربيع العربي ، الذي تحول الي خريف اصاب المسبح الجاف بالتشققات ، رحل هيكل و الامة العربية في مواجه مع ايران التي تسربت مياهها الي المسبح العربي من خلال تلك التشققات ، فضلا عن المياه الامريكية والروسية و الأوربية .
□□□ رحل هيكل واليمن في حرب داخلية و قومية .. و العراق مسرحا لمدافع آيات الله ، و سوريا تواجه مخاطر التقسيمات الاثنية و الطائفية لا بسبب نظامها الذي اشاد به في لقاءاته المتلفزة فحسب ،بل الدور الايراني ـ الفارسي ، الذي دفع باليمنيين الي خوض هذه الحرب حتى لا تصبح اليمن نجمة الهلال الفارسي ـ الصفوي .
رحل هيكل .. و السعودية تقود الأمة العربية في مواجهة مخططات تقسيمها و تذويبها في مشروع الشرق الاوسط الجديد ، رحل هيكل الي رحمة الله ، والملك : سلمان بن عبدالعزيز.. يقود معركة استعادة كرامة وهوية امة بحزم ، و تضطلع القيادة السعودية بدورها و مسؤولياتها ..التي حاول في اخر لقاء له مع صحيفة السفير التقليل منه .. بعد سنوات من توقف المؤسسة اللندنية عن توزيع مقالاته على الصحف العالمية الكبرى .
□□□□ رحل الكاتب الكبيرـ يرحمه الله .. بعد رحيل الدور ولم يبقى لنا منه الا ما كتبه بعقل السياسي و المفكر او حتى بدوافع اخرى، اصاب فيما كتب او أخطى ، ففي المحصلة هو اجتهاد لكاتب سياسي عاصر مراحل من المتغيرات العربية و الدولية الكبرى، وتوفرت له كل عوامل النجاح و بريق الشهرة ، أكان لتأدية دورا ام للاضطلاع به .. و في كل الاحوال لم يكن محمد حسنين هيكل صدفة ، كما هي صدفة لقاءي به على ضفاف النيل .
* عبدالله عمر باوزير.
*عضو المجلس المحلي لحضرموت .. وكاتب سياسي