انتصارات قوى التحالف والمقاومة اليمنية التي قادتها ألوية العمالقة الجنوبية في السيطرة على مطار الحديدة تشكل خطوة هامة في طريق تحرير العاصمة السابقة صنعاء مركز السلطة التنفيذية الحوثية والحكومة المعينة من قبلهم. وبعد أن كانت الحديدة معضلة كبيرة نتيجة لضغوط مارسها المجتمع الدولي لفترة زمنية طويلة لمنع التحالف من التقدم في اتجاه مراكز الحوثيين الرئيسية أضحت الآن مدينة مهددة بالسقوط.
قرار التحالف بالمضي في معركة تحرير الحديدة يعد قراراً سليماً وجاء في التوقيت المناسب خصوصاً وأن الأمر كان مرتب له منذ فترة طويلة ولكن السير وفق خطط مرحلية واستراتيجية هو الطريق الأسلم نحو القضاء بشكل تام على الحوثيين سواء عسكرياً أو سياسياً. من خلال إضعافهم عسكرياً عبر انتزاع أحد أكبر مراكز تجمعهم ومصدر نفوذهم البحري على الساحل الغربي المطل على البحر الأحمر ومركز قوتهم الاتصالية البرية والبحرية، مما يعني محاصرتهم برياً وتشديد القبضة عليهم جنوباً من ناحية تعز ومنها في اتجاه إب وشمالاً من ناحية حجة في اتجاه صعدة. وسياسياً عبر قطع طريق المفاوضات وإضعاف قدرتهم التفاوضية لدرجة كبيرة بحيث أن ما كان مشروطاً من قبلهم في مرحلة ما قبل معركة الحديدة لم يعد في قدرتهم فرضه الآن. المفاوضات الجديدة ستجري وفق شروط جديدة وآلية عمل جديدة يحدد معظم نقاطها التحالف وممثلو الشرعية وليس الحوثيون.
قد تكون الكفة قد رجحت في المواجهات العسكرية الأخيرة ضد الحوثيين لصالح قوى التحالف المشتركة بعد انحسار قوات الحوثيين من مساحات شاسعة في عمق المحافظات الشمالية ولكن المواجهات السياسية لإسقاط أجندتهم السياسية لا تزال مستمرة. وقد تتغير بنود تلك الأجندة في الأيام القادمة ويتم مراجعتها من قبل قادة الحوثيين أنفسهم وفق حيثيات المعارك الدائرة حالياً.
وما يحدد هذا التغيير وتوجهاته عناصر رئيسية لعل أهمها:
أولاً: أن القيادة الحوثية على المستوى الأعلى قد تعرضت لاهتزازات كبيرة بعد مقتل قيادات هامة لعل على رأسها صالح الصماد الذي كان يعد أحد العقول المدبرة للحركة الحوثية ولم يستطع مهدي المشاط أن يقوم بدور القيادي السابق حتى هذه اللحظة، أو أن يطرح توجهات نوعية تفرض رؤيته ومكانته الحالية كرئيس للمجلس السياسي في صنعاء. وهذا يعني أن الأجندة الحوثية ستتضعضع من عدة جوانب سواء عسكرية أو سياسية أو اقتصادية.
ثانياً: مقتل عدد كبير من القيادات العسكرية للحركة الحوثية سيكون له تأثير كبير على إدارة وتوجيه الألوية المتعددة والموزعة عبر المحافظات الواقعة تحت سيطرتهم. حيث تتوزع تلك الألوية حالياً بشكل يفتقد لعناصر الانسجام والتلاحم سواء في جبهة نهم أو صرواح أو صعدة أو حتى داخل صنعاء نفسها. مما يشير إلى أن قوة الحوثيين العسكرية في تنازل كبير وأن الأعداد الكبيرة من المجندين في الميليشيا الحوثية لن تستطيع أن تستمر كميليشيا منظمة قتالية من الطراز الأول وإنما ستتحول مع الوقت إلى عصابات إجرامية تمتهن الكر والفر والقنص كما سبق أن لعبت هذا الدور داخل عدن حتى تلاشت تماماً من المسرح القتالي.
ثالثاً: الدور القبلي المعزز للحركة الحوثية داخل المحافظات الشمالية بدءاً من معقلهم الرئيسي في صعدة بدأ يتعرض للتفكك والانحسار وهذا ما اتضح في الفترة الماضية في المواجهات الدائرة في جبهة صعدة ما بين الحوثيين وقوى التحالف المشتركة وفي داخل صنعاء نفسها بعد انقسامات الجبهة التحالفية للحوثي وصالح والتي تفاقمت بعد مقتل الرئيس اليمني السابق.
إن المعضلة القادمة بالنسبة للتحالف ليست في تكملة سلسلة الانتصارات والدخول إلى صنعاء إما سلماً أو بالقوة وإنما هي في تحديد وجهة المفاوضات السياسية بين الأطراف المتنازعة وتحديد العناصر التي ستقوم بالتفاوض ومضمون هذه المفاوضات. وهي معضلة حقيقية بكل المقاييس لغياب الإجماع في الساحة اليمنية سواء على مستوى الحكومة الشرعية التي يمثلها عبدربه هادي أو على مستوى القوى الجنوبية وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي أو على مستوى أحزاب المشترك المهترئة سياسياً وأخيراً على مستوى الحركة الحوثية نفسها التي تشكل هدفاً عسكرياً معادياً بالنسبة لقوى التحالف. لذا فالمفاوضات هي الساحة التنافسية القادمة سواء في الداخل المحلي اليمني أو في النطاق الاقليمي والدولي فالكل يريد أن يفاوض والكل يريد أن يحدد شروطه، ولا أحد يريد أن يقدم التنازلات.
تلك التوجهات كان لها سوابق في مفاوضات جنيف الأولى والثانية وخلال مفاوضات الكويت. وتصريح وزير الخارجية اليمني خالد اليماني بأن مفاوضات الكويت تشكل محطة البداية لأية مفاوضات جديدة يعكس تلك الرؤى الجامدة والسقيمة. فلا يستطيع أحد أن يصل للهدف الأساسي للمفاوضات في تخطي مآسي الحرب والبدء في مرحلة ما بعد الحرب من نقطة بداية قديمة في تاريخها الزمني والسياسي إلى جانب فشلها في أن تؤتي ثمارها.
منذ انتهاء مفاوضات الكويت اجتاحت اليمن تغيرات عسكرية وسياسية عديدة أثرت بشكل جذري على التكوين السياسي والعسكري للقوى اليمنية والمجتمع اليمني سواء في المحافظات الجنوبية أو في المحافظات الشمالية ولعل أبرزها بروز المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة سياسية جنوبية مؤثرة، والسقوط المدوي للمؤتمر الشعبي العام بموت زعيمه علي عبدالله صالح وتفكك جبهته السياسية على مستوى اليمن ككل، والاختلال التدريجي في البنية العسكرية والسياسية للحوثيين مما يعني أن تركيز الحكومة الشرعية ودول التحالف على
اعتماد المرجعيات الثلاثة وهي المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني وقرارات مجلس الأمن وأبرزها 2216 لا تشكل البداية الصحيحة لأية مفاوضات قادمة ولابد من مراجعة المواقف إزاء تلك المرجعيات في ضوء المرحلة الجديدة وتداعياتها.
إن التحركات العسكرية في نطاق القيادة، التوجيه، والإشراف تشكل مرتكزاً أساسياً في تحديد وجهة المفاوضات القادمة وخصوصاً ما يتعلق بعنصر الالتزام وعدم الانحراف عن أجندة الأهداف العسكرية الرئيسية على المدى الزمني القصير والأهداف المرحلية على المدى الزمني الطويل والتي قد تستمر خلال مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. كما أن الأجندة السياسية التي ستفرزها المفاوضات السياسية لن تجد لها طريقاً للتنفيذ إلا بمؤازرة الأجندتين العسكرية والأمنية. وهذا يعني أن التغيير محتمل إلى درجة كبيرة في أية مرجعيات سياسية ماضية وفقاً للتغيرات الحاصلة في أرض الواقع سواء السياسية، العسكرية والأمنية وحتى الاقتصادية.
إن الانسجام والتوافق بين تلك الأجندات المختلفة يحقق حماية نسبية لمصالح جميع القوى السياسية سواء المحلية، الاقليمية أو الدولية لأن استمرار التناقضات في ظل الاصرار على مرجعيات ماضية لن يحقق الفائدة لأي طرف بل على العكس قد يزيد من الاحتكاكات المستقبلية ويهدد عنصر الاستقرار على مختلف الأصعدة.
المرونة السياسية في اليمن يجب أن تكون عنوان مرحلة ما بعد الحرب في إدارة المفاوضات السياسية سواء كانت مفاوضات شاملة لجميع القوى السياسية أو مفاوضات جزئية لقوى محددة وسواء كانت محلية خالصة أو كانت مشتركة مع القوى الاقليمية والدولية. لابد من تقبل التغييرات السياسية وعدم اعتماد شعارات أو مناهج عمل أحادية ذات نظرة ضيقة وغير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
تاريخ اليمن السياسي والعسكري سواء جنوب اليمن أو شمالها يؤكد بأن هناك دروساً لابد من تعلمها سواء في توجيه بوصلة القيادة السياسية أو في تأمين دوران عجلة العملية السياسية بشكل مستمر ومستقر دون تقطع أو صدامات فجائية سواء فردية على مستوى قيادات أو جماعية على مستوى أحزاب سياسية. والمفاوضات القادمة لتحديد مصير اليمن السياسي قد تشكل فرصة حقيقية للاستفادة من الدروس الماضية لتجنب الأخطاء ومن المهم أن تكون الحكومة الشرعية هي أول طرف يتبنى هذا التوجه لا أن يسعى إلى تكرار الماضي بلباس جديد.
*- هيفاء المعشي : مركز دبي لبحوث السياسات العامة