شراكة أم تبعية؟.. خمس سنوات من الوهم وليلة من التصحيح الجنوبي

2025-09-11 11:37
شراكة أم تبعية؟.. خمس سنوات من الوهم وليلة من التصحيح الجنوبي
شبوه برس - خـاص - عــدن

 

*- شبوة برس - حافظ الشجيفي

في مساء يوم مشحون بالتداعيات، لم تكن القرارات التي أصدرها الرئيس عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، مجرد تغييرات في تشكيلات إدارية أو سياسية طارئة. بل كانت، في جوهرها، إعلانًا صريحًا عن نهاية صمت طال أمده، وتصحيحًا لجوهر معادلة "شراكة" ظلت لخمس سنوات كاملة غارقة في تناقضها الصارخ بين النص والواقع، بين الورقة والسلطة، بين القوة الفعلية والتمثيل الشكلي.

 

فمنذ التوقيع على اتفاق الرياض في نوفمبر 2019، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين – حفظهما الله –، انطلقت الآمال في فتح صفحة جديدة تلملم الشمل في مواجهة المخاطر الحوثية بعد طرد الشرعية من عدن على أسس من العدالة والمنطق. فمثل الاتفاق، نظريًا، اعترافًا بمأسسة دور المجلس الانتقالي الجنوبي كشريك أساسي في معادلة الحل السياسي وإدارة المرحلة الانتقالية. لكن الروح التي غُيبَت عن هذا الجسد كانت هي روح الشراكة الحقيقية.

 

حيث لم يشعر الجنوبيون، على امتداد ربوع أرضهم من المهرة إلى باب المندب، بأن هذا الاتفاق قد غيّر من واقعهم شيئًا. ولم يروا حكومة شراكة، بل رأوا حكومة مركزية تعيد إنتاج نفس النهج القديم، تتجاهل الخصوصية الجنوبية وتتعامل مع الجنوب ليس كطرف له كيانه وقضيته العادلة، بل على انه مجرد جغرافية تابعة، و"طرف طائش"  – يجب احتواؤه شكليًا بينما تُستأثر سلطة الشرعية بالقرار والفعل.

 

وهنا تكمن أكبر مفارقات هذه السنوات الخمس. فالمجلس الانتقالي الجنوبي، بحكم الواقع، هو الطرف الأكثر تماسكًا وتأثيرًا على الأرض. يمتلك جيشًا ضاربًا يحمي خطوط التماس ويذود عن الجنوب، ويحظى بحاضنة شعبية هي حصيلة تراكم تاريخي من المعاناة والتطلع المشروع للتحرر من هيمنة قوى الشمال.ويسيطر على الأرض وثرواتها، ويوفر قدرًا من الأمن والاستقرار في عدن والجنوب، بل إنه هو الذي يستضيف حكومة الشرعية ويوفر لها سقفًا آمنًا تعمل تحته.

 

وفي المقابل، تفتقر سلطة الشرعية، بمقرها المؤقت في عدن، إلى معظم مقومات القوة هذه. فهي تائهة بين المنفى والوجود المشروط، تفتقر إلى السيطرة الفعلية على الأرض، ويعوزها التأييد الشعبي الواسع، ويعيقها الانقسام الداخلي والعجز عن تقديم أي نموذج حكم ناجح.

 

اللافت في الأمر ليس فقط ضعف المركز التفاوضي الظاهري للمجلس الانتقالي رغم انه كان هو الطرف المنتصر عند توقيع اتفاق الشراكة مع الشرعية، بل صمته الاستراتيجي الطويل. فقد آثرت القيادة الجنوبية، وربما لحكمة بالغة، أن تمنح شركاءها في الشرعية فرصة تاريخية لمراجعة حساباتهم، وإدراك حجم التنازل الجنوبي من أجل هدف أعلى هو مواجهة الخطر الحوثي الإيراني المحدق بالجميع وكان هذا الصبر اختبارًا للنية، ومحكًا لرغبة الشرعية الحقيقية في إعادة تعريف العلاقة.

 

ولكن يبدو أن خمس سنوات من الصبر والتروي لم تلقى آذانًا صاغية. بل على العكس، استُخدِمَ هذا التسامح الجنوبي ذريعةً لتعميق سياسة التهميش والإقصاء، والتعامل مع "الشراكة" وكأنها منّة من حكومة الشرعية، وليس حقًا أصيلاً لطرفٍ هو في الواقع العمود الفقري لهذه الشراكة ومصدر قوتها..

 

وفي هذا السياق، تأتي قرارات الرئيس الزبيدي الأخيرة لتمثل أكثر من مجرد تعيينات. حيث إعادت تركيب المعادلة،بصورة شبة جذرية ووضع الأمور في نصابها الطبيعي وترجمة عملية لفكرة "الشراكة" من حيز النص الورقي إلى حيز الممارسة الفعلية ورسالة واضحة مفادها: أن الجنوب لم يعد مستعدًا ليكون تابعًا، وأن قوته على الأرض هي مصدر شرعيته، وهي التي يجب أن تترجم إلى سلطة وقرار.

 

هذه الخطوة، وإن تأخرت كثيرًا، الا انها كانت ضرورية وحتمية. فهي تحقق عنصرين أساسيين: التوازن المفقود في الشراكة، وإعادة تعريف "الوزن الحقيقي" لكل طرف. فالمجلس الانتقالي هو الشريك الأقوى، والأكثر تأثيرًا، والأكثر جاهزية، وبالتالي، من المنطقي والطبيعي أن تكون له اليد الطولى في إدارة الشؤون السياسية والأمنية والإدارية في الجنوب، بحكم الواقع أولاً، وبحكم مبدأ الشراكة الثنائية ثانيًا.

 

الرسالة التي أُرسلت من عدن ليلة أمس هي بمثابة تصويت حاسم على نموذج فاشل من "الشراكة". فهي دعوة أخيرة لسلطة الشرعية كي تستفيق وتدرك أن زمن الهيمنة المركزية قد ولى، وأن المستقبل لا يمكن أن يُبنى إلا على أساس الاعتراف بالواقع الجديد، والمساواة الحقيقية، والاحترام المتبادل للقوة والتأثير.