يقدّم مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد قراءة سياسية لموقع المجلس الانتقالي الجنوبي في المشهد الإقليمي، من زاوية الجغرافيا والتوازنات المؤثرة، ويثير جملة من الهواجس المشروعة المرتبطة بالاستقرار، والتوافق، وعلاقة أي مشروع سياسي جنوبي بجواره الإقليمي. غير أنّ المقال، في سعيه للتنبيه والتحذير، يخلط بين توصيف الواقع، وافتراض المسارات الممكنة، ويقع في عدد من الاختزالات التي تستوجب التوقف عندها.
أولاً، صحيح أن الجغرافيا عامل حاسم في السياسة، وأن المملكة العربية السعودية تمثل ثقلاً إقليمياً لا يمكن تجاهله في معادلة الجنوب والشمال معاً. غير أن تحويل هذا العامل إلى شرط وجود سياسي، يُفرغ فكرة الدولة من معناها، ويجعل إرادة الشعوب مجرد انعكاس لمعادلات الجوار. فالجغرافيا تؤثر في خيارات الدول، لكنها لم تكن يوماً بديلاً عن الحق السياسي، ولا مانعاً لولادة كيانات جديدة حين تتوفر لها المشروعية الشعبية والتوافق الداخلي.
ثانياً، يضع المقال مشروع المجلس الانتقالي في مقارنة ضمنية مع تجربة الحوثي، سواء من حيث التمدد أو فرض الوقائع بالقوة، وهي مقارنة لا تستقيم موضوعياً. فالمجلس الانتقالي نشأ في سياق مختلف جذرياً، كحامل لقضية سياسية تاريخية تتعلق بفشل تجربة الوحدة، وليس كمشروع أيديولوجي عابر للحدود أو تابع لقوة إقليمية معادية لمحيطه. كما أن الانتقالي كان – ولا يزال – جزءاً من معادلة مكافحة الانقلاب الحوثي، وشريكاً في التحالف العربي، لا نقيضاً له.
ثالثاً، يحمّل المقال قيادة المجلس الانتقالي مسؤولية تعقيد المشهد الجنوبي، ويذهب إلى أن الإشكال قد يكون في القيادة لا في الفكرة. هذا الطرح، وإن بدا ظاهرياً دعوة للمراجعة، يتجاهل أن أي مشروع تحرري أو سياسي يمر بطبيعة الحال بصراعات داخلية، وتباينات في الرؤى، وأن معالجة هذه التباينات لا تكون بتجريد المشروع من أدواته أو وصمه، بل بفتح مسارات حوار داخلي جاد، يعترف بتعدد الجنوب وتنوعه، دون إنكار قضيته الجامعة.
رابعاً، يتوقف المقال عند حضرموت والمهرة بوصفهما مثالاً على رفض التمدد أو التخوف منه، لكنه لا يضع هذه المحافظات في سياقها الكامل، حيث تتداخل الاعتبارات المحلية مع التأثيرات الإقليمية والدولية، وتتشابك الهواجس المشروعة مع حسابات النفوذ. فالتباين داخل الجنوب لا يعني رفض مبدأ استعادة الدولة، بقدر ما يعكس قلقاً حول شكلها ونظامها وآليات إدارتها، وهو نقاش صحي إذا أُحسن التعامل معه سياسياً لا أمنياً.
خامساً، الدعوة إلى العمل حصراً من داخل المجلس الرئاسي، بوصفه الإطار القانوني الوحيد، تتجاهل أن هذا المجلس نفسه هو نتاج تسوية مؤقتة، فرضتها ظروف الحرب، ولم تُحسم فيها القضايا الجوهرية، وعلى رأسها القضية الجنوبية. إن المشاركة في الأطر القائمة لا تعني تعليق الحق السياسي، كما أن السعي لاستعادة الدولة لا يعني بالضرورة القطيعة أو التمرد، إذا ما أُدير ضمن رؤية سياسية واضحة، وتفاهمات مرحلية مسؤولة.
في المحصلة، يقدّم مقال عبد الرحمن الراشد تحذيراً يستحق الإصغاء، لكنه ينطلق من مقاربة أمنية – استقرارية أكثر من كونه قراءة لحق سياسي تاريخي. فالدولة الجنوبية، إن قُدّر لها أن تقوم، لن تكون عبئاً على محيطها ولا مصدراً للأزمات، بل يمكن أن تشكل عامل استقرار، إذا تأسست على التوافق الداخلي، واحترام الجوار، والشراكة الإقليمية المتوازنة، لا على نفي الإرادة أو مصادرتها.
إن التحدي الحقيقي أمام المجلس الانتقالي ليس في إقناع الخارج فقط، بل في بلورة مشروع سياسي جامع، يطمئن الداخل الجنوبي أولاً، ويقدّم نفسه للخارج باعتباره مشروع دولة مسؤولة، لا مغامرة عسكرية، ولا نسخة أخرى من صراعات المنطقة. وفي هذا الإطار، يبقى الحوار، لا الاستعراض، هو الطريق الأقصر والأكثر أماناً نحو المستقبل.