جميع الناس يتوجهون إلى عدن ففيها آمال النجاح أو حتى مجرد البقاء , هكذا كان حال العاصمة الجنوبية قبل الاستقلال عن بريطانيا , ولكن بعد خروج المستعمر عاشت المدينة تقلبات سياسية وصراعات على السلطة أجبرت الكثير من سكانها إلى مغادرتها خوفا على أرواحها وعلى تجارتها أو للاحتفاظ بما تبقى لديها من رأس مال وتجارة , و فيسبعينيات القرن الماضي كانت عدن مدينة كثيرة المنازل الفارغة قليلة السكان والأسواق والسيارات بعد أن فر عدد كبير من التجار و اختفت شركات كثيرة أجنبية ومحلية بعد قرار التأميم , وبسبب ذلك انتعشت في عدن حركة الجمال , التي تجر العربات وتنقل البضائع خاصة بين الأحياء الشعبية للشيخ عثمان , وكذلك تجارة الحيوانات المجترة الصغيرة التي تُربى لألبانها ولحومها للمناسبات و الأعياد والأفراح , وذات مرة و بينما كنت أسير مع والدي رحمة الله عليه في شارع السد في الشيخ عثمان و كنت وقتها في التاسعة من العمر رأيت حمار مربوط إلى جانب حظيرةخشبية ملاصقة لجدار أحدى المنازل , وسألت والدي متعجبا , لأنها المرة الأولى التي أشاهد فيها حمار في عدن , هل هناك كثير من الحمير في المدينة ؟ فا أجاب لاإنها قليلة , لكن زرايب ( حظائر) المواشي هي التي تتكاثر .
لم أكن أدرك حينها ما الذي كان يقصده والدي , إلا بعد رسالة الماجستير , حينما قال لي أتذكر ذلك اليوم عندما سألتنا عن كثرة الحمير في عدن وأجبتك أن الكثرة تكمن في بناء حظائر المواشي وكنت اقصد حينها أن مظهر الحيوانات والحظائر في العاصمة عدن غير حضاري , ولكن المشكلة الحقيقية والخطرة ليس في المواشي , وإنما في رفض غالبية القائمينعلى تربيتها مفهوم التعليم و الاندماج في المجتمع , الأمر الذي سيجعل عدن عرضة للعشوائية والفوضى وهو ما يعبد الطريق لاغتيال ثقافة التفاهم والتواصل والتسامح والتعايش بين مكونات مدينة عدن الميتروبوليتان , فالعاصمة حينذاك كانت قد دخلت حالة من التأخر و الركود والتباطؤ , بسبب هشاشة الاقتصاد و عدم الاستقرار التي تعيشها المؤسسات السياسية .
اليوم وانأ في القرن الواحد والعشرين وفي المنصورة صحيت الساعة السادسة صباحا على نهيق أحدى الحمير وكنت أتمنى أن يكون ذلك حلمأو حتى كابوس ولكنه للأسف كان حقيقة , فعندما نظرت من الشباك لم يكن هناك حمارا واحدا بل ثلاثة وجميعها مربوطة بعربات تقف على عجل سيارات , وهناك منيُحملها ببقايا مخلفات البناء , صُعقت ولم اصدق ما أرى وكأن عجلة الزمان لا تتحرك في هذه المدينة , خرجت من المنزلواتجهت نحو احد الشبابالذي كان يمسك بواحد من الحمير الثلاثة وقلت له لماذا هذا الإزعاج من صبح الله فقال لي إنها لقمة العيشوانه بلا عملو فوق ظهره أسرة كبيرة يعيلها وعندما سألته عن مستواه الدراسي أجابنا بأنه لا يحب الدراسة و المدارس وأن لدية في منطقة دار سعد حظيرة يربي فيها المواشي والدجاج وهذا الحمارلزيادة الدخل , حينها أوتوماتيكيا عادت بي ذاكرتي إلى سبعينيات القرن الماضي وحادثة سؤالي لوالدي عن الحمير آنذاك, اختصرت الكلام وقلت له أتمنى أن أراك في المرة القادمة وأنت تمسك بدبلوم حرفة بدلا من الحمار .
بعض سلبيات الماضي التاريخي الجنوبيفرضت نفسها لاحقاً بشكل جزئي في النظام والجغرافية الجديدة مرحلة ما بعد 22 مايو1990 التي ساهمت في مضاعفة عدد مالكي حظائر المواشي مع السلاح شمالا وجنوبا عموديا وأفقيا , واليوم حال الجنوب منذ استقلالهعن بريطانياوصل إلى الحضيض , شوارع عدن العاصمة تغطيها المجاري والقمامة ومحسوبية دائمة و صادمة في النظام الإداري توظف الجهل و التخلّف المعرفي في مؤسسات ألدوله على الطريقة الحوثية الحالية , ولكن بأسلوب جنوبي , والمهم ألان ليس أن نحدد من يكون المسئول عن هذا الواقعالمزري , بل المهم هو كيف نغير هذا الواقع أو التخفيف من تداعياته ومن ثم القضاء عليه , عبر إصلاحات تبدأ بالقطاعات ذات الأولوية وتعزيزها و التعليم أولها , الذي يجب أن يكون تعليماً وطنياً واجتماعياً , يجمع لا يفرق , يبني لا يهدم , فالسنين تمر و لا تتغير ملامح الجنوب المطبوعة بكل علامات التاريخ القديم رغم انتشار التكنولوجيا و المعرفة و وفرة الكوادر الجنوبية و تنوعها و بأعلى الشهادات العلمية بمختلف التخصصات و بكل الاتجاهات الحقوقية و الفكرية و الفلسفية و العلمية و غيرها , فالجنوب اليوم مثل الأمس البعيد تبدوعليه مظاهر التعاسة ماثلة للعيان وعلى كافة المستويات , ولا أحد يقدر أن يخفي مدى الهشاشة و عد م الاستقرار , التي تعيشه المكونات السياسية الجنوبية,وهذه حقيقة مرة , و كأنه أمر طبيعي متوارث و مسار حتمي صاغته الأقدار لنا منذ الاستقلال عن بريطانيا , ولكنالمرحلة الآن تختلف من كل النواحي عن سابقتها وتتطلب كل الانتباه و الجهد لتكوين مسار إنساني تنويري جديد , حتى لا تظلحقبة الصراعات والانقسامات الجنوبية تنسخ نفسها بظروف جديدة وأسلحة حديثة تتجه بالجنوب نحو منحدرات الإخفاقات و منزلقات الفتن.
ان سلاح العلم والمعرفة وثقافة الحوار الموجود في دول الخليج أوصلها إلى بر الأمان و التطور , سلاح أتمنى أن تنقله وتُدرسة هذه الدول إلى بعض القيادات الجنوبية الجديدة التي تملك الفلل الضخمة والفخمة وبداخلها حظائر المواشي للأكل فقط , فدول الخليج بحكم وجودها هنا هي من تدير ومن وراء الكواليس المشهد الجنوبي كاملا والشمالي جزئيا وهذا ليس سراً, وهي ألان تضعنا جميعاً تحت المجهر الخاصبها لدراسة سلوكياتنا وثقافتنا عن قرب عبر خلايا من نُخب علمية وفكرية واقتصادية وسياسية خليجية وبمشاركة خبرات أجنبية وفق إستراتيجيات بعيدة المدى من أجل آمننا ومصالحنا ومن أجل الآمن القومي لدول الخليج ومصالح شعوبها, ولكنعلى تلك النخب الخليجية أن تعي بأن إيجاد حلول واقعية وفعلية وناجعة لكل ما هو اقتصادي واجتماعي وتعليمي كما كان في تاريخ تطورها الحديث هو الأساس للخروج بالجنوب من الأزمات التي لا تنتهي ,وحتى لا ترى أجيالنا القادمةومعنا ودول الخليج في شوارع عدن حروب جديدة و حظائر للمواشي أمام المنازل والحميرمربوطة بجانبها في الألفية الرابعة والخامسة .
*- مروان هائل عبدالمولى