الواقع المأزوم و التمجد الكاذب
سالم فرج مفلح – باحث ومؤرخ – المكلا
( الانسان لا يحب الا ما يعرفه ، و يستحيل عليه ان يحب شيئا يجهله ، و حقيقة حضرموت و الجنوب كهوية تاريخية اصيلة مكتوبة و متوارثة عبر الاجيال – اي كوطن - لازالت الى اليوم مجهولة - و من يدعي خلاف ذلك فهو دجال فاحذروه - ، ما نملكه بدلا من المكتوب هو (الذاكرة الجمعية ) و هي غير ثابتة و متحولة حسب تعاقب الاجيال و احوال الزمان ، و تتدرج في الضعف حتى تتلاشى حقائقها ، ولهذا فهي لا تغني عن المكتوب شيئا ، و مع ذلك فنحن نحب حضرموت و الجنوب رغم جهلنا بحقيقة هويتنا التاريخية الاصيلة ، هنا تكون محبتنا تلك لحضرموت و الجنوب محبة للديار و الاهل و السكن ، و لكنها ابدا لم تصل الى المحبة الوطنية ، فالوطن هو ما يسكنك لا ما تسكنه ، و هذا لوحده كاف لتفسير الكثير من عيوبنا الاجتماعية و أخطاءنا السياسية ، بل و أزمة وحدتنا الوطنية و هوياتنا المتناثرة المتنافرة .
و لهذا ، فحتى نصل الى هذه الاخيرة ، لا بد ان نضعها كمهمة وطنية عالية الاهمية الحيوية ، و نسخر كل امكانيات الامة المادية و البشرية من اجل الوصول اليها ، ثم نقوم بتسليمها الى الاجيال اللاحقة كي تعض عليها بالنواجد ، فان فشلنا في ذلك ، اصبحنا شعبا فاشلا في اثبات وجوده في الحياة و لا يستحق وطنا خاصا به ، فلا وجود بلا هوية (ماهية) ، ذلك هو قانون الحياة ، قبل ان يكون قانون العلم و الفلسفة ....
و اذن ، نحن امام مهمة معها نكون أو لا نكون ، غير ان توثيق تلك الهوية الوطنية التاريخية الاصيلة تقف دونه صعاب كبيرة و كثيرة ، خاصة اذا علمنا ان ذلك المكتوب المفقود ليس وليد الامس القريب ، بل هو حصيلة قرون خلت من الجهد الاناني الذي مارسه الاخلاف في افناء و اعدام الاصول ، حسب مقولة المؤرخ علوي بن طاهر الحداد : ( ان الاخلاف وجدوا في سيرة الاسلاف ما ينكرونه عليهم اليوم ، فعمدوا الى اخفائها و افنائها .) ، و هذا يعني ان ما هو موجود داخل الوطن اليوم من وثائق و مخطوطات و ما هو مكتوب اعتمادا عليها لابد ان ننظر اليه نظرة نقدية علمية ، كما لابد من البحث و التنقيب عن ثراثنا المحفوظ في خزائن مخطوطات العالم .....، كل ذلك لا يتحقق باعمال فردية ، بل لابد من مشروع وطني استراتيجي تقوده الدولة الوطنية الجنوبية القادمة ..........................
غير العقبة الكأداء التي تقف امام ذلك المشروع الوطني الاستراتيجي ليس ما ذكر اعلاه ، بل الفضيحة الوطنية الكبرى المتمثلة في فرض هوية اليمننة على الشعب الجنوبي منذ مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني ، حتى اذا تحقق الاستقلال الوطني ، كانت هوية اليمننة هي هوية الشعب الجنوبي ...............
في نفس الاجواء السياسية العربية التي ناضل فيها الشعب الجنوبي و نال فيها استقلاله ، ناضلت و استقلت شعوب عربية أخرى ، و لكن لا نجد شعبا عربيا واحدا قال بانتمائه لشعب عربي آخر الا الشعب الجنوبي .
هذا الاستثناء الجنوبي يجد تفسيره في ان الشعب الجنوبي هو الشعب العربي الوحيد الذي دمرت هويته التاريخية الاصيلة منذ ما قبل استقلالة بقرون خلت ، فكان خيار اليمننة هو الخيار الاقرب جغرافيا اليه .........................
و اذن ، فان خلع رداء اليمننة عن الشعب الجنوبي مقدمة و تسبق أي مشروع وطني لاستعادة الاصالة الوطنية ، و هذه المرحلة هي التي نشهد نهاياتها اليوم و التي استطاع الشعب الجنوبي انجازها بصموده و تضحياته طوال معاركه السلمية و المسلحة التي اذهلت العالم و اصبحت مفخرة للانسانية المناضلة جمعاء ......................
فهل نكون مفخرة للانسانية في المرحلة الوطنية العلمية القادمة في توثيق ذلك المكتوب المفقود ؟ ذلك هو ما يقوله الانجاز الاول في نزع و تمزيق رداء اليمننة . كما أنه في ظل هذا الواقع المأزوم ، يجب الابتعاد عن التمجد الكاذب الذي يعمل مفعول المخدر ، و يخفي الحقيقة و الواقع البائس وطنيا و اجتماعيا . رحم الله مصطفى الرافعي القائل : ( الشعب الذي لا يجد أعمالا كبيرة يتمجد بها ، هو الذي تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها .) .