اتصل بي شيخ من آل كثير من الرياض هاتفيًا قائلا: باكثير لم يرحل من سيئون حزنًا على زوجته كما أشرت في كتابك، وإنما طُرد منها. قلت: كيف؟ قال: كنت وقتها أحد حرس السلطان الكثيري، فحدث أن استدعى هذا السلطان باكثير، واكتفى بمقابلته على باب القصر، ثم أمامنا قال له: أنت أمام أمرين؛ إما أن ترحل من البلاد، وإما أن تدخل السجن، أنا ما أريد مشاكل. فرحل باكثير.
هذا الاتصال وقع مع أحد من تناولوا الأديب الراحل علي أحمد باكثير، رحل عن سيوون في مطلع الثلاثينيات، ثم عن دنيانا في العاشر من نوفمبر سنة 1969، ولم يكن الباكثير الكاتب والمصلح الوحيد الذي طرد من حضرموت، بل سبقه ولحقه آخرون، ومن مدن حضرمية مختلفة، وسبب ذلك تبادل السأم بين الطرفين، فالكاتب سئم من محاولة إصلاحها، وحضرموت سئمت من إلحاح بذل الصلاح من أولئك، فعجل حكامها بطردهم، فمات كثير منهم في الغربة منطوين على هموهم وأوهامهم.
وكان لباكثير نفسه شرف نعي أحد المطرودين من مدينة المكلا، من أحد حكامها المخبولين دومًا، ليموت أسفًا في الحديدة، فقال فيه قصيدة عصماء، وكأنه ينعي نفسه فقال:
أودى إمــام العارفـينا، وخـبا هدى المسترشدينا
يـا شــامتين بـه أأنتم في الحيـاة مخـلدونا
أبمجـدكم وبفخــركم يـا قـوم أنتـم تعبثـونا
فسـلوا الفقيد وما تحمل مـن أذى المتعصبينا
وهذا الأمر الجلل وهو التنكر للمصلحين بأذيتهم وبتثبيطهم وبطردهم سجله الكثير من أجلاء حضرموت كقول أحدهم:
كيف الخـلاص وإننا قـوم إذا ما قام مرشـدنا قطعنا سـاعده
وقال آخر:
ولا تسمعوا من جد في السعي عاملاً لإصلاحكم إلا الأذى والتبرما
وقال آخر:
تعاتبــني العواطـف والضـميرُ فأنهـض للصـلاح ولا نصـيرُ
وأرجو العـون من كـبراء قومي فيقتل همـتي الرجـل الكبـيرُ
وهكذا غادر باكثير حضرموت بعد أن لعن شعبها المعادي لمصلحيه، والمخالف لناصحيه:
تبًا لشـعب لم يزل أحراره مسـتهضمينا
لا يبرحون الدهر في عرض البلاد مشردينا
يشـقون في أوطانهم وذوو الجهالة ينعمونا
وتشعبت بباكثير البلدان، من عدن إلى الصومال إلى الحجاز إلى مصر، فذاق مرارة الغربة، وتوالت عليه الكربة تلو الكربة، ولا تحلو حياة له إلا وتخالطها مرارة، وبعد مرور سنين طوال، حدثت فيها أهوال، وتغيرت فيها أحوال، عاد باكثير لحضرموت ليعلن استقراره، ولكن حكامها كانوا له بالمرصاد، رحل سلطان وأتى بعده زعطان، لكن لم تفارقهم خبالتهم، بل هم نسخ تتكرر فيها هبالتهم، فعاد إلى الغربة أدراجه، يحمل معه سراجه، وهو يصيح لقد ذبحوني، فكأنه صار ثالث الذبيحين.
وبعد رجوعه لمصر مطرودًا للمرة الثانية، مات باكثير في هذه المرة، لم يستسغ العودة لمرارات الاغتراب، ففضل من باريه الاقتراب، وعاقب الله بلاده وشعبها بالاغتراب والاحتراب، على يد الأغراب، ودارت الدائرة على حكامها، فآلت قصورهم إلى خراب، ينعق عليها الغراب.
*-