المتباكون على أبين

2022-06-12 13:24

 

تجنبت الحديث عن محافظة أبين في مهرجان التباكي والنواح الذي شهدته الفترة الأخيرة، كواحد من التداعيات التي نجمت عن التنفيذ الجزئي لاتفاق الرياض في العام 2019م ثم التغييرات التي تزامنت مع مؤتمر مشاورات الرياض،.. تجنبت هذا لأن حديثي عن أبين هو حديث الإبن عن أمه وحديث الفرد عن أهله، فأنا ابن أبين وكل اللحم الذي في جسدي والدم الذي في شراييني، والنفس الذي يجري في رئتي والمعارف المتواضعة التي تحصلت عليها، كل هذا من خيرات أبين وثمار جهود فلاحيها وعمالها وكد أبنائها وبناتها وفيهم والديَّ وأهلي وذويَّ ورفاقي وزملائي ومعلميَّ وأساتذتي.

تجنبت طويلاً الحديث عن محافظة أبين الباسلة محافظة الحب والسلام والإنتاج والعطاء والثقافة والإبداع،.. ابين الساحل والسهل والجبل، . . أبين البر المعطاء والبحر الزاخر بالخيرات، . . أبين التنوع البيئي والتدرج المناخي والتضاريسي والتعدد المناطقي والجهوي، . . أبين الصدق والوفاء والتواضع والبساطة ومعها العزة والبسالة والإقدام.

 *          *         *

كل الذين يتباكون على أبين لم يتحدثوا عن حرمان أبين من مشاريع التنمية وافتقارها إلى أبسط الوسائل الخدمية ولا عن التدمير الممنهج الذي تعرضت له المحافظة ومعها كل محافظات الجنوب على مدى ما يقارب العقود الثلاثة، . . . فلم يتحدثوا عن تدمير مصنع الأسماك بشقرة ومحلج القطن ومركز البحوث الزراعية في الكود ومستشفيات الرازي ومحنف وسواهما، ونهب عشرات التعاونيات السمكية والخدمية والاستهلاكية ولا عن مزارع الدولة التي سُلِبت سلباً كما تُسلَب أموال اليتامى على أيدي اللئام، ولم يتناول المتباكون تدمير مصنع 7 أوكتوبر وتسليمه وتسليم معظم مديريات المحافظة بكاملها لتنظيم القاعدة في العام 2011م ، ولا عن تهالك الطريق الدولي (امعين المكلا) وكل الطرق الداخلية والفرعية ولا عن تعطيل مشروع طريق باتيس-رصد الذي تبنت تمويله دولة قطر الشقيقة، كما لم يتباكوا على تدمير التعليم والخدمات الطبية واستبعاد المئات من أبناء أبين من خبراء وقادة القوات المسلحة والأمن وتحويلهم إلى رعاة إبل وبائعي أسماك وخضار، وموت العشرات منهم قهرا وإملاقاً.

ارتبطت ظاهرة التباكي هذه بمتغيرات سياسية واستقالة مسؤولين من أبناء المحافظة واستبدالهم بآخرين، وجاء قرار الرئيس عبد ربه منصور هادي بنقل السلطة إلى المجلس الرئاسي ليمثل ذروة هذه الظاهرة.

كان كاتب هذه السطور أول من توجه بالتحية والثناء على موقف الرئيس عبد ربه منصور هادي لقراره الشجاع حينما قدم بيانه الخاص بنقل السلطة وأعتبرت هذا إنما يدل على مدى تقديره للمسؤولية واحترامه لنفسه وإيثاره المصلحة الوطنية على أية مصلحة فردية قد ترتبط بوجوده على رأس السلطة، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتبر نقله السلطة ظلما لمحافظة أبين فلا الرئيس كان رئيساً لأبين ولا أبين احتكرت لنفسها أية فائدة من وجوده في هذا الموقع.

  *        *        *

حينما كان الشهيد سالم ربيع علي (سالمين) رئيسا لليمن الديمقراطي، ومعه الرئيس علي ناصر محمد رئيسا للوزراء  ثم حينما انتقلت السلطة الحزبية والرئاسية والحكومية إلى الرئيس علي ناصر محمد لم يقل أحدٌ أن هذا مكسبٌ لمحافظة أبين أو ظلمٌ للمحافظات الأخرى، وظل الجنوبيون -كل الجنوبيين- يعتبرون هذه القيادات قياداتٍ لكل الجنوب معبرةً عن كل الجنوبيين بجميع محافظاتهم ومديرياتهم، وانتماءاتهم الجغرافية والديمغرافية، وكانت المفاخرة والمباهاة بأسماء القيادات الجنوبية تتصل بما تحقق في ظل قيادتهم للدولة من منجزات ومكاسب لكل الوطن ولكل المواطنين، وليس بانتماءاتهم المناطقية أو الجهوية.

*          *          *

لم تنشأ ولم تتطور وتتسع ظاهرة المحاصصة المناطقية والجهوية واعتبار من يستحوذ على المناصب الأكثر في السلطة، هو من يحصل على الحصة الأكبر من التميز والثراء، إلا بعد غزو 1994م حينما تحولت السلطة من أداة لإدارة المجتمع وحماية مصالح كل الناس إلى وسيلة للإثراء والكسب والاغتناء على حساب موارد الوطن ومصالح مواطنيه، وفي أحسن الأحوال تكريس مصالح الجهة والقبيلة والمنطقة التي ينتمي إليها من يتبوأون المناصب والمواقع القيادية والمسؤوليات الرفيعة، وفي ظل هذه الثقافة كَرَّست السلطات الوهم القائم على أن خروج مسؤول ما أو قائد ما من موقعه هو ظلمٌ لمنطقته وقبيلته، وقد أسميته وهماً لأن المناطق التي انتمى إليها مسؤولون وقادة إداريون وعسكريون، لم تتحقق لها ولا لأبنائها أية مصالح سوى ما يحصده بعض هؤلاء المسؤولين من امتيازات فردية وعائلية لا يستفيد منها لا محافظاتهم ولا حتى أبناء مناطقهم وقبائلهم.

أبين ومعها كل محافظات الجنوب مظلومةٌ، نعم، وهذه المظلومية ليست بسبب نقص عدد المسؤولين من أبنائها ولكن بسبب الحرمان والظلم والنهب والتدمير الممنهج لكل ما يعبر عن مصالح المواطنين كل المواطنين بجميع مناطقهم ومديرياتهم وانتماءاتهم الطبقية والاجتماعية والجغرافية، وهذا الظلم لن يزول بإكثار عدد المسؤولين والقادة من هذه المنظقة والمحافظة أو تلك، بل باستعادة الدولة وبناء مؤسساتها الحديثة على أساس النظام والقانون والمواطنة المتساوية وتبني الخطط التنموية وتوسيع دائرة المصالح الحيوية لكل الناس، وإرساء مبدأي الثواب والعقاب أولاً، والكادر المناسب في المكان المناسب ثانيا.

وأخيراً أشير إلى أن النتائج السياسية التي تصنعها الحروب والنزاعات والمواجهات المسلحة والاضطرابات السياسية والأمنية لا يمكن أن تعتبر معيارا للعدالة أو المظلومية، وإنما المعيار الأساسي لهذه الثنائية هو قيام الدولة المستقرة المستقلة الآمنة التي تحتكم إلى معايير الزمن الجديد زمن الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية، بعيداً عن الاستقواء والعشوائية أو المحاصصة المناطقية والجهوية البغيضة، وهو ما ينبغي أن يسعى إليه كل الجنوبيين بمختلف مناطقهم وانتماءاتهم ومحافظاتهم ومديرياتهم.

"وإلى الله ترجع الأمور"