عندما يتحول اللجوء السياسي إلى الداخل

2025-06-01 21:41

 

في اللحظة التي يتحول فيها اللجوء السياسي إلى الداخل، يتغير كل شيء، تتبدّل زوايا النظر، تُعاد قراءة المشهد من جديد، وتبدأ رحلة مختلفة تمامًا عن تلك التي تبدأ من المطارات والنوافذ المغلقة. الداخل رغم هشاشته أحيانًا يصبح الخيار الأقوى، والملاذ الأصدق، والأكثر شرعية حين تفقد المنافي وظيفتها الأخلاقية والسياسية.

 

لطالما كان اللجوء السياسي خيارًا تفرضه الجغرافيا والسياسة والتوازنات الدولية. لكنه كان أيضًا تعبيرًا عن اختلال المعادلة في الداخل، وعن انسداد الأفق في وطن تحكمه القبضة الأمنية أو النزاعات، أو تغيب فيه دولة المواطنة. غير أن السنوات الأخيرة، في عالم شديد التغير، كشفت عن الوجه الآخر للجوء: الوجه الذي يجعل الخارج ضيقًا، مطوقًا بالصفقات، مرهونًا بالإملاءات، بل أحيانًا خطرًا على القضية أكثر من الداخل ذاته.

 

حين يتحول اللجوء إلى الداخل، لا يعني ذلك بالضرورة أن الداخل أصبح مثاليًا، أو خاليًا من المخاطر، بل يعني غالبًا أن الخارج لم يعد آمنًا، أو أنه فقد الحياد، وتحول إلى طرف ضاغط لا يوفر الحماية بل يبتزّ القرار والسيادة والموقف. هكذا، يجد السياسي أو الحقوقي أو المناضل نفسه مدفوعًا، بوعي أو قسرًا، إلى الاحتماء بالشعب، إلى خوض المعركة في ميدانها الحقيقي، لا من بعيد، بل من قلب النار.

 

هذا التحول ليس سهلًا، ولا مجانيًا. إنه محفوف بالتحديات، بالملاحقة، بالشكوك. لكنه أيضًا يحمل نضجًا كبيرًا، ورسالة صلبة: أن الداخل هو الميدان، وأن شرعية المعركة تُكتسب من الأرض لا من دوائر الضغط الدولية، وأن الحلول الحقيقية لا تُطبخ في فنادق الخارج، بل تُصاغ على رصيف الناس، بين جدران المعاناة، وفي تفاصيل الحياة اليومية.

 

العودة إلى الداخل هي عودة إلى الذات، إلى الجذر، إلى الهوية. وقد تكون هذه العودة بداية لمصالحة أكبر مع الناس والتاريخ، وفرصة لبناء مشروع نضالي متجدد لا يقوم على انتظار الخارج، بل على تفعيل الداخل، وتحريك الوعي الشعبي، واستنهاض الطاقات.

 

قد لا يكون الداخل آمناً تمامًا، لكنه صادق، وقد لا يمنحك الحماية، لكنه يمنحك المعنى، والمعنى هو ما يبحث عنه كل مناضل حين تضيق به الممرات ويتكسر على عتبات الانتظار.