بالأمس مرّت ١٨٦ سنة على تأسيس بريد عدن… ولمن لا يعرف: لم يكن مجرد مبنى يحمل طابعًا بريديًا، بل كان شاهدًا على أول مظاهر الحداثة الإدارية في الجنوب، ومركزًا حيويًا للتواصل البحري والدولي، قبل أن يُعاد توظيفه لاحقًا كمقر للمحكمة العليا، وقبله كان متصلًا جسديًا ورمزيًا بـمنارة عدن… تلك البيضاء الشامخة، التي لا تزال واقفة كضمير هذه المدينة، رغم كل ما لحق بها من قبح وتخريب. بريد عدن كان مؤسسة دولة، قبل أن تُفرّغ الدولة من معناها.
كان منصة للربط بين الناس، قبل أن تتحول المؤسسات اليوم إلى أدوات مراقبة، وسلطات فوقية لا تؤمن بخدمة المواطن، بل بإدارته وتطويعه. واليوم، وفي نفس التوقيت، تمر علينا ذكرى رحيل واحد من أعمدة الضمير العدني والجنوب: هشام محمد علي باشراحيل، الذي لم يكن مجرّد ناشر، بل ركيزة في معمار الصحافة الجنوبية المستقلة.
قائد الأيام، تلك الصحيفة التي لم تكن مجرد جريدة مطبوعة، بل كانت فضاءً حرًا، مدرسة مهنية، وجبهة مواجهة ناعمة ضد عسكرة المدينة وقمع الحريات. هشام باشراحيل، ومعه شقيقه الأستاذ الجسور تمام محمد علي باشراحيل، قادا واحدة من أشرس معارك الصحافة ضد منظومة علي عبدالله صالح، التي أرادت تدجين الكلمة وتذويب الصحفي في قالب الدعاية الرسمية. لكن "الأيام" تمردت على كل ذلك، ودفعت الثمن بدمّها وبقفل أبوابها لسنوات، لكنها لم تساوم. فتحت الصحيفة صفحاتها للجميع، واحتملت من الآراء ما كان يفترض أن يُرفض لاختلاله مع أخلاقيات المهنة وحدود القانون، لكنها لم تكن تنتقي الأصوات على أساس الولاء، بل على أساس الوجود.
ذلك لأن هشام كان يعرف أن الحرية ليست رفاهية، بل مسؤولية… وأن الصحفي الحقيقي لا يُعيد صياغة ما يُملى عليه، بل يصيغ الحقيقة كما هي، حتى وإن تألم منها الجميع. في ذكرى وفاته، نحن لا نرثي رجلًا… بل نُشيّع زمنًا من الحضور القوي في وجه التغوّل.
رحل هشام، لكن روح "الأيام" التي صنعت الوعي، وخلخلت منظومة القمع، لا تزال تتنفس رغم الضربات. عدن، التي كانت منارة للمؤسسات، باتت تبحث اليوم عن مؤسسة لا يسيّجها العسكر، وعن صحيفة لا تُدار من الخلف، وعن رجل لا يكتب بمرآة مزاج الحاكم.
نفتقد هشام، لأننا نفتقد من لا يخاف من الكلمة، ولا يُقايض على المبادئ. رحم الله هشام باشراحيل، وأطال الله في عمر من تبقى من هذه السلالة النزيهة.
ولمن يسأل: لماذا "للكبار فقط"؟
لأن هذا الكلام لا يُقال على منصّات الضجيج… بل يُفهم فقط في دوائر الوعي، حيث يُحترم التاريخ، وتُبجل التجربة، ويُفهم معنى أن تكون حرًا في زمن تُصادر فيه الهُويات وتُستباح فيه الحقيقة.
المحامي/جسار فاروق مكاوي .