*- شبوة برس - أ.د. مسعود عمشوش: جامعة عدن
مقدمة:
بالأمس واليوم يتميّز جنوب الجزيرة العربية بثراء ثقافي ولغوي كبير، فعلى المستوى اللغوي، إضافةً إلى اللغة العربية تـُـستخدَم اليوم في جنوب الجزيرة العربية، وتحديدا في محافظتي المهرة وسقطرى من جنوبنا العربي وفي ظفار بسلطنة عمان، ست لغات شفوية أو محكية هي: المهرية، والسقطرية والهوبيوتية والحرسوسية، والبطحرية، والجبالية. تنتمي هذه اللغات الست إلى الفرع الجنوبي للغات السامية الغربية الجنوبية، مثلها مثل اللغات العربية الجنوبية القديمة (أو لغات النقوش)، واللغة العربية الشمالية بفرعيها الباقيين: الحجازي والتميمي، واللغات الإثيو – سامية في شرق إفريقيا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الباحثين يستخدمون صفة الحديثة لتمييز تلك اللغات الحيّة عن اللغات العربية القديمة أو لغات النقوش التي اندثرت: المعينية والحضرمية والقتبانية والسبئية والحميرية.
ولغات جنوب الجزيرة العربية الحديثة هي اللغات الأم لحوالي ٥٠٠٠٠٠ من العرب المسلمين، من مواطني الجنوب العربي وظفار في سلطنة عمان. تستخدم السقطرية في جزر سقطرى وعبد الكوري وسمحة، والمهرية والهوبيوتية في المهرة وظفار، والحرسوسية في منطقة جدة الحراسيس في عمان، والبطحرية في ساحل مضيق كوريا موريا، والجبالية في ظفار والساحل المواجه لها. وتقسم الباحثة الفرنسية ماري كلود سيميون سينيل تلك اللغات الخمس إلى ثلاث مجموعات: تضع في المجموعة الأولى منها المهرية والهوبيوتية والبطحرية والحرسوسية، وتجعل من كل من السقطرية والجبالية مجموعة مستقلة.
(2) اللغات العربية الجنوبية الحديثة في كتابات علماء اللغة:
يقدم الحسن بن أحمد الهمداني، في كتابه (صفة جزيرة العرب)، وصفا موجزا للتنوع اللغوي الذي كان سائدا في شبه الجزيرة العربية في القرن الرابع للهجرة. ويبدو أن وصفه كان دقيقا فيما يتعلق بالمناطق الواقعة في جنوب الجزيرة، حيث كانت (اللغة الحميرية القحة) لا تزال تستخدم في عصره في مناطق جنوب الجزيرة. وقد ذكر الهمداني أن أهل حضرموت لا يستخدمون العربية الفصيحة، وقال: "ربما كان فيهم الفصيح وأفصحهم كندة وهمدان". وذكر كذلك أن "سكان عدن لغتهم مولدة رديئة، وكذلك سكان الشحر ليسوا بفصحاء، فهم مهرة غُتُم يشاكلون العجم". (1) ويمكننا أن نستنتج من هذه الإشارات أن اللغة العربية الشمالية - أي الفصحى - لم تصل حينذاك إلى المناطق المعزولة الواقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية حيث لا تزال لغات عربية جنوبية تستخدم حتى يومنا هذا. كما توجد إشارة إلى لغة المهرة "المستعجمة" في كتاب (المسالك والممالك)، الذي يقول مؤلفه الأصطخري، في القرن الثالث للهجرة: "أما بلاد مهرة، فأن قصبتها تسمى الشحر وهي بلاد قفرة. وألسنتهم مستعجمة جدا لا يكاد يُوقف عليها". (2)
وحسب علمنا لا توجد أية إشارة أخرى إلى اللغة المهرية في كتب اللغويين العرب القدماء الذين اهتموا أساسا باللغة العربية الفصحى. وفي سنة ١٨٣٥، نشر الضابط البريطاني ريموند جيمس ويلستد تقديما لجزيرة سقطرى يحتوي على ٢٥٠ كلمة وعبارة من اللغة المستخدمة فيها، وبعد ثلاث سنوات اكتشف القنصل الفرنسي في جدة فولجانس فريسنل، وجود اللغة الجبالية (الشحرية) التي تستخدم حتى اليوم في بعض المناطق الساحلية من ظفار في عمان. وفي سنة ١٨٤٠ نشر ويلستد كلمات من اللغة المهرية في كتابه (رحلات إلى مدينة الخلفاء).
وفي سنة 1898 قامت بعثة نمساوية من أكاديمية فينا للعلوم بتسجيل مجموعة كبيرة من النصوص الشفهية والمدونة بتلك اللغات الثلاث وبلهجة حضرموت. وفي سنة ١٩٢٩، قام العالم الإنجليزي ب. توماس باكتشاف وجود لغتين عربيتين جنوبيتين حيتين أخريين تستخدمان في عمان: البطحرية والحرسوسية. وفي سنة ۱۹۸۱ اكتشف توماس موير جونستون وجود اللغة العربية الجنوبية الحديثة السادسة في عمان: الهوبيوتية. وقد أكدت البعثة الفرنسية استخدام هذه اللغة في بعض المناطق الشرقية من الجنوب العربي سنة 1985.
وإذا كانت هذه اللغات الست تنتمي جميعها إلى مجموعة لغوية واحدة لامتلاكها سمات مشتركة تميّزها عن بقية اللغات السامية فهذا لا يعني أن مستخدمي إحداها يستطيعون التخاطب مع مستخدمي لغة أخرى منها؛ فالسقطري لا يفهم المهري أو الجبالي إلا بمترجم. واليوم تعدّ كل واحدة من تلك اللغات العربية الجنوبية الحديثة اللغة الأم لعدد محدود من العرب في جزيرة سقطرة وسمحة وعبد الكوري ومحافظة المهرة الجنوبية، وفي جزر كوريا موريا وإقليم ظفار وجدة الحراسيس في سلطنة عمان.
(۳) موقع اللغات العربية الجنوبية الحديثة بين اللغات السامية
لا شك أن تحديد موقع اللغة المهرية واللغات العربية الجنوبية الحديثة عموما بين اللغات السامية وطبيعة علاقتها باللغات العربية الجنوبية القديمة ينبغي أن يرتكز على معرفة جيّدة بجميع تلك اللغات. وهذا شيء صعب المنال حتى بين علماء الساميات أنفسهم، والحقيقة، ما عدا بعض الباحثين، معظم الذين درسوا اللغات العربية الجنوبية الحديثة باحثون غير متخصصين أساساً فيها وإن شاءت الأقدار أن يكرس بعضهم كثيرا من وقته لدراستها. وعادة ما نجد أن كل من يهتم باللغات العربية الجنوبية الحديثة يميل في الغالب إلى تقريبها من اللغة أو اللغات السامية التي يعرفها.
ومن خلال قراءتنا لعدد محدود من الدراسات التي أنجزت خلال الخمسين سنة الماضية حول اللغات العربية الجنوبية الحديثة وللعرض التحليلي للدراسات والأبحاث التي أنجزت حولها قبل سنة ۱۹٦٨ والذي ضمه الدكتور مراد كامل لكتابه (اللهجات العربية الحديثة في اليمن) (3)، يتبيّن لنا أن دارسي اللغات العربية الجنوبية الحديثة يذهبون في اتجاهين مختلفين عند تحديدهم لموقع تلك اللغات في إطار اللغات السامية فمنهم من يقربها من اللغات العربية الجنوبية القديمة ويجعلها امتداداً لها، بينما يرى الآخرون أنه ينبغي الفصل بين اللغات القديمة واللغات الحديثة ويقاربون بين اللغات الحديثة ولغات سامية أخرى. وسنبدأ أولاً باستعراض بعض هذه الآراء الأخيرة.
في مطلع القرن العشرين قام العالم النمساوي ماكسيمليان بيتنر بإعداد سلسلة من الأبحاث حول اللغات المهرية والسقطرية والجبالية معتمدا على النصوص التي جمعها أعضاء بعثة أكاديمية فينَّا لدراسة اللغات العربية الجنوبية في نهاية القرن التاسع عشر برئاسة كارلو دي لاندبرج و مولر. وفي كتابه الأول (دراسات في أصوات وتراكيب اللغة المهرية في جنوب الجزيرة العربية)، حاول بيتنر أن يبرهن أن المهرية لغة قائمة بذاتها ولا ترتبط بأية لغة عربية جنوبية أخرى. (4) أما في كتابه الثاني المكرس لدراسة اللغة الجبالية، فقد خلص بيتنر إلى أن اللغتين السقطرية والجبالية قد اشتقتا من اللغة المهرية. ويعود مرة أخرى إلى ضرورة استبعادها من مجموعة اللغات العربية الجنوبية القديمة. (5)
وفي الفترة ما بين ۱۹۳۹ و۱۹۴۵، اعتمد العالم وولف ليسلو على تلك النصوص التي جمعتها البعثة النمساوية ولا سيما مولر ليضع أحد عشر كتابا تتعلق جميعها باللغات العربية الجنوبية الحديثة ومن بينها (معجم اللغة السقطرية). وقد قام ليسلو، في تلك الكتب، بمقارنات عديدة بين اللغات العربية الجنوبية الحديثة وبعض اللغات السامية الأخرى كالعبرية والأمهرية، وفي دراسته الأخيرة التي نشرها سنة ١٩٤٥، رأى ليسلو أن اللغات المهرية والسقطرية والجبالية والبطحرية تحتوي على كثير من الكلمات التي لا نظير لها في اللغات السامية الأخرى، وهي لهذا تكوّن مجموعة قائمة بذاتها وتوجد بينها سمات وخصائص مشتركة في المستويات الصوتية والنحوية والصرفية والمعجمية (6).
ومن أهم الدراسات العلمية حول اللغات العربية الجنوبية الحديثة تلك الأبحاث التي تقوم بها (البعثة الفرنسية لدراسة اللغات الحية واللهجات العربية في جنوب الجزيرة العربية) التي أنشئت في سنة ۱۹۸۲ بموجب اتفاقية تعاون بين جامعة عدن وجامعة السوربون الجديدة والمركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. وقد انتهت الباحثة ماري كلود سيميون سينيل من إعداد كتابين يحتوي الأول منهما على نصوص مهرية، والآخر على تقديم عام للغات العربية الجنوبية الحديثة (7). وفي المداخلة التي قدمتها سينيل إلى (ندوة الألسنة الحية واللهجات في اليمن) التي نظمها مركز البحوث والدراسات في جامعة عدن (١٤-١٥ مارس ۱۹۹۹ ) بعنوان (نتائج دراسة اللغات العربية الجنوبية الحديثة وآفاقها) والتي قمت بنشر ترجمة لها، تؤكد الباحثة ماري - كلود سيميون سينيل، هي أيضا، على ضرورة التمييز بين اللغات العربية الجنوبية القديمة واللغات العربية الجنوبية الحديثة، وتقول: "في المستوى الذي وصلت إليه دراستنا لا نستطيع إلا استبعاد الفكرة التي تجعل من اللغات العربية الجنوبية الحديثة نتيجة لتطور اللغات العربية الجنوبية القديمة التي نعرفها من خلال النقوش التي تزين المعالم الجنوبية القديمة. ولا شك أن اللغات العربية الجنوبية الحديثة جاءت حصيلة لتطور لغات قديمة؛ لكن تلك اللغات القديمة كانت محكية شفهية، ولم يُكتشف أي أثر كتابي لها، على افتراض أنها كتبت في زمن ما من تاريخها. إضافة إلى ذلك، لا شيء يؤكد لنا أن اللغات العربية الجنوبية القديمة المدونة في الأحجار كانت لغات تستخدم في الكلام في الفترات التي تمّ التدوين بها في النقوش. وإذا كان من المؤكد أن اللغات العربية الجنوبية الحديثة تقترب من اللغات العربية الجنوبية القديمة في إطار اللغات السامية الغربية الجنوبية، فدرجة القرابة بينها هي نفس درجة القرابة بين كل منها وبقية اللغات الواقعة في إطار مجموعة اللغات السامية الغربية الجنوبية، فاللغات العربية الجنوبية الحديثة تقترب من لغات النقوش بنفس درجة قربها من اللغة الجعزية أو الأمهرية أو اللغة العربية. إذن فاللغات العربية الجنوبية الحديثة ليست تطورا للغات القديمة (