*- شبوة برس - حافظ الشجيفي
قد يظن البعض أن الضوء الساطع الذي سُلِّط مؤخرًا على واقعة إدارية بسيطة في أحد أقسام شرطة عدن، يمثل انتصارًا جديدًا لمبادئ حرية الصحافة، أو دليلًا على يقظة المجتمع الدولي تجاه أدق تفاصيل الحريات. لكن، عندما يتعلق الأمر بمواقف بريطانيا وأمريكا وفرنسا، يجب دائمًا البحث عن البوصلة التي توجه هذه التحركات. فالمشهد هنا ليس دفاعًا عفويًا عن مبدأ، بل هو كشفٌ صادم لتناقضات السياسة الدولية والمصالح المتحكمة.
المعلومة تبدو واضحة ومحددة فالصحفي فتحي بن لزرق تعرّض للتوقيف في قسم شرطة المنصورة لمدة لا تتجاوز ساعة ونصف، في سياق يخص تراخيص إدارية لصحيفته وهذا الإجراء، مهما كان مزعجًا، يظل ضمن الأطر الروتينية التي قد تحدث في أي دولة من العالم، بما فيها الدول التي سارعت إلى إعلان تضامنها معه. فالتوقيف لساعة أو حتى يومين او اسبوع في قضية إدارية لا يندرج بأي حال تحت خانة المساس بحرية الصحافة أو الانتهاك الجسيم لحرية التعبير الذي يستدعي إدانة دولية عاجلة. بل هي حادثة هامشية في سلم الاهتمامات الداخلية.
لكن، ما حدث كان على النقيض من ذلك تمامًا فالتسابُقٌ الغريب من قبل الدول العظمى على إعلان التضامن مع الصحفي فتحي الذي تجاوز الحدود الدبلوماسية لا يقف عند حدود الإفراط في الاهتمام، بل يذهب أبعد من ذلك ليثير أسئلة حول احترام سيادة اليمن. فالمنطق الدبلوماسي يقتضي أن توجه هذه الدول، إذا رأت ضرورة قصوى لذلك، بيان إدانة رسميًا إلى الجهات المسؤولة أو تتخاطب معها عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة. لكن أن يتم تجاوز الدولة اليمنية والسلطات المعنية فيها للتواصل المباشر مع صحفي وإعلان التضامن معه بهذا الشكل العلني والمبالغ فيه، هو تصرف يفتقر إلى اللياقة الدبلوماسية ويشكّل تدخلاً سافرًا لا يتناسب مع عظمة هذه الدول.
كما ان التناقض الصارخ الذي يمزق مصداقية هذا "التضامن" يتجسّد في التجاهل المُطبق لنقيضه الأكبر المتمثل في القضية الجنوبية. فهذه الدول نفسها، التي أعلنت تضامنها مع قضية توقيف لم يدم سوى ساعة ونصف لصحفي، لم تُحرّك ساكنًا أمام الاحتلال اليمني للجنوب وما صاحبه من انتهاكات جسيمة ومستمرة بحق الجنوبيين منذ صيف 1994. حيث لم تكن هذه الانتهاكات إدارية عابرة، بل شملت كل جوانب الحياة، من قتل واعتقال ونهب للممتلكات والثروات، وحرمان من الخدمات والكهرباء، إلى مضايقات في سبل العيش.
وعلى مدى ثلاثة عقود من الصراعات، نفّذ الشعب الجنوبي المليونيات والفعاليات الجماهيرية الحاشدة والمناشدات عبر كل المحافل الإعلامية والدبلوماسية والسياسية للمطالبة بـاستعادة دولته في قضية عادلة مدعومة بالقوانين الدولية، والحجج المنطقية، والإرادة الشعبية الجارفة، والشرعية السياسية والتاريخية والقانونية. ومع ذلك، ظلت أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا في موقف التجاهل التام لهذه القضية.
فكيف يمكن لدول أن تتجاهل حرية شعب بكامله، وآلاف الانتهاكات والحروب التي شُنّت على شعب أعزل، وكل ذلك الصراع الطويل، ثم تبدي اهتمامًا مُريبًا بقضية صحفي واحد، توقّف لدقائق معدودة في إجراء إداري طبيعي؟ فالتكلفة الإنسانية والسياسية للقضية الجنوبية لا تُقارن باي حال من الاحوال بقضية تراخيص صحيفة. فالاهتمام هنا يبدو انتقائيًا مُتعمّدًا يصل إلى حد السخرية.
وهذا الاهتمام المُفرط والتناقض الصارخ لا يمكن تفسيره إلا بوجود أجندة خفية. فتلك الدول التي أهملت قضايا مصيرية لشعب كامل، وجدت في حادثة "الساعة والنصف" فرصة لـ"التضامن" مع شخص بعينه. علي نحو يشير الي ان الأمر يتجاوز الدفاع عن الحريات ليصبح دفاعًا عن عميل وعن مصالح استراتيجية يتم تحريكها بدقة متناهية من خلف الواجهة، والشخص المُتضامن معه هنا مجرد أداة في لعبة دولية أكبر.
فعندما يترك المجتمع الدولي قضية شعب بأكمله في طي الاهمال، ويعلي من قضية فردية بسيطة إلى مستوى التدخل الدبلوماسي الرفيع، فإن الرسالة واضحة بان التضامن ليس دفاعًا عن المبدأ، بل هو دفاع عن المصالح وعن العميل الذي يخدم هذه المصالح. وهذا التمييز الفاضح يظهر وجهًا قاسيًا للسياسة الدولية، حيث تُوظّف مفاهيم "حرية الصحافة" كغطاء للتدخل ولتنفيذ الأجندات، بينما تُترك القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى تحت رحمة التجاهل المُتعمّد.
إنها لعبة الأمم، حيث تُقلب الموازين، وتُضخّم التوافه، وتُدفن الحقائق، وكل ذلك خدمةً لمصالح تُدار بخيوط غير مرئية. فهل يظل هذا التناقض مقبولًا، أم أنه سيشعل الوعي بحقيقة التلاعب الغربي في الجنوب