لا يوجد شعب في التاريخ وضع مصيره في ميزان الوعود العائمة، أو شكّل قضيته على مقاسات المبادرات الخارجية، فلا طموح يتحقق وفق معايير الآخرين، ولا مقومات سلام حقيقي تتحدد من خلال مشاريع تسويات هشّة تفتقر إلى جذور عادلة. فالسلام الحقيقي بحاجة إلى وعي عميق بالمخاطر وإلى احتياطات لحماية الحق من أن يُختزل تحت شعارات التسوية.
“الشرعية”ــ بمنظومتها المتشابكة وأحزابها وقواعدها ــ لا تملك ما يضمن تحقيق نصف أهدافها سلمياً حتى الآن، لا على طاولة المفاوضات ولا تحتها، ولا حتى ما يرسّخ مستوى شراكتها كما تتصوّره في سياق التسويات القادمة. فكل ما يُطرح حتى الآن ليس سوى حديث عن خرائط طريق غائمة، تتناثر تحتها آلاف الألغام القابلة للانفجار في أيّ لحظة.
أي أن وضع كل طرف في معادلة الصراع يتعلق بمدى القدرة على حماية حقوقه و أهدافه، وليس بالنوايا. ذلك ما تعلمناه من تاريخ الأزمات والتسويات في نهايات الحروب.
أما مصطلح "حل الدولتين" الذي يتداوله البعض مؤخراً عند الإشارة إلى قضية الجنوب، والمطالب باستعادة دولته، فهو تعبير يستدعي التوقف عنده مثلما يستدعي تدخل أهل القانون لإبداء رأيهم في مدى صلاحيته.
ذلك لأنّ المصطلح يحمل مدلولات قد تكون ملتبسة، إذ يعود أصله إلى أدبيات الصراع العربي–الإسرائيلي منذ قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، والذي (يفترض) أن تنشأ على أساسه دولتان.
ومن ثمّ، فإنّ مفهوم «حلّ الدولتين» في ذلك السياق يقوم على مبدأ تقاسم الأرض ورسم الحدود فيما بينهما، و ليس على استعادة كيانين كانا قائمين بصفتهما القانونية والسياسية.
فمن الثابت أنّ كلاً من ج ع ي (الشمال) و ج ي د ش (الجنوب) كانتا دولتين قائمتين، يتمتع كل منهما بسيادة كاملة وشخصية قانونية دولية مستقلة، معترفًا بهما من الأمم المتحدة وسائر المنظمات الإقليمية والدولية. وقد قامت الوحدة اليمنية عام 1990 على أساس اتفاقٍ طوعي بين دولتين مستقلتين، أُعلن بموجبه قيام الجمهورية اليمنية ككيان موحّد.
لكن انهيار البنية التوافقية التي تأسّست عليها الوحدة، وما تلا ذلك من حرب صيف 1994 وانفراد طرف بالحكم والسيطرة، مثّل من الناحية القانونية انقلابًا على عقد الوحدة ذاته، الأمر الذي يجعل الحديث عن فك الارتباط (وهو المصطلح الرائج الذي ملأ السمع والأبصار) أو العودة إلى ما قبل الوحدة أقرب إلى المنطق القانوني والسياسي من "حل الدولتين" بما للأخير من دلالات ضمنية وتفاصيل مختلفة.
إنّ ترديد مصطلح "حلّ الدولتين" في حالة الشمال والجنوب قد يُفهم داخلياً بمعناه السياسي العام، لكنه في المقابل قد يُحدث التباساً في التفاصيل وفي التوظيف الخارجي، وكأنه يوحي، بوجود دولة واحدة يسعى البعض لتقسيمها إلى كيانين، بينما الواقع القانوني مختلف.
لهذا ينبغي أن يركز التوصيف على المعنى الدقيق، وهو "عودة الدولتين إلى وضعهما القانوني والسياسي السابق "قبل 22 مايو 1990" لا البحث عن “حلّ الدولتين” كما يُفهم في النزاعات الإقليمية المختلفة.
ربما لا تكمن خلف استخدام هذا المصطلح نوايا لإعادة تشكيل الإدراك أو بناء سردية بديلة، خاصة وقد تردّد على لسان بعض المسؤولين الجنوبيين، لكنه مع الزمن قد يتحور بل وتتبدل تفسيراته تماماً كما تبدلت روايات التاريخ ذاتها.
إن اللحظات الحرجة خلال المتغيرات الكبيرة تستدعي دقّة لغوية ومسؤولية سياسية، ما يتطلّب استشارة خبراء القانون والعلاقات الدولية في تقييم المصطلحات المستخدمة في الخطاب الرسمي والإعلامي، لأنّ اللفظ في السياق السياسي ليس مجرد أداة تواصل، بل حامل للمفاهيم القانونية ويعكس مضمونها.