يبدو أن قائد الجيش البريطاني في يوم العشرين الأغر قد ضيّع صوابه وارتبش، وكأن لحظة الارتباك هذه قد قررت أن تتآمر علينا نحن الجنوبيين تحديدًا، وتذكّرنا بأن صوابنا قد تلاشى مبكرًا منذ اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963 وما حملته من صراعات وتسخين ناريّ بين فصائل المقاومة ضد المستعمر. فجاء الرحيل البريطاني أكثر إيلامًا مما يحتمله بشر… ولا حتى الاستعمار نفسه.
والنتيجة؟ استقلالٌ لم نكن مستعدين له، ووضعٌ اليوم لا يسرّ صديقًا ولا يغيظ عدوًا… حتى الخصوم باتوا يشعرون بالحرج من الشماتة، احترامًا لظروفٍ تخجل منها المآسي ذاتها.
ومع كل ذكرى لـ 30 نوفمبر 1967م، تمرّ الذكريات من أمامنا كأنها مقاطع فيلم طويل لا نهاية له. ذكرى يُفترض أن تكون مُفعمة بالانتصار ورائحة الكرامة، لكنها اليوم تُثير في صدورنا سؤالًا مربكًا: هل احتفلنا يومًا بالشيء الخطأ؟
فالنضال كان كبيرًا، والتضحيات موجعة، والآلام لم تتوقف حتى هذه اللحظة—وكأن الاستقلال لم يكن إلا تمهيدًا لامتحانٍ معقّد لم نفتح كتابه أصلًا، وما زلنا نبحث عن الصفحة الأولى فيه.
جاء نضال الجنوب في التوقيت الأسوأ الذي يمكن أن يختاره القدر أو التاريخ—مدٌّ ناصريٌّ يندفع كالطوفان، معسكر رأسمالي يصرخ، وآخر اشتراكي يزمجر، وبين هذا وذاك وقف الجنوب، في منتصف العاصفة تمامًا، يدفع الثمن مرتين: مرة حين دخل لعبة الكبار، ومرة حين خرج منها بلا مكسب، ولا حتى ورقة حضور.
بدأ الاستقلال قوميًا أنيقًا، ثم غيّر ملامحه تدريجيًا حتى صار اشتراكيًا كامل الدسم، بعدما ذابت الناصرية كما ذابت أحلام البسطاء. تغيّر الاسم والشعار والنهج، بينما بقيت المعاناة ثابتة كجبال ردفان، لا تهتز ولا تتزحزح.
وهكذا نقول اليوم بضحكة تحمل مرارة السنين: ليته لم يرتبش.
ليتهم سلّموا الجنوب كما سلّموا دول الخليج؛ بهدوء، باتفاق، وبمفاتيح تُسلَّم لأيدٍ تُؤتمن. لكان المشهد مختلفًا؛ ربما أفضل، ربما أقل دموية، وربما—وهو أضعف الإيمان—أكثر استقرارًا من هذا السيرك السياسي الذي نعيش فيه دور المتفرِّج المنهك.
ليته لم يرتبش… وأكمل خطة الانسحاب كما رُسِمَت، وسلّم الحكم للجنوبيين، وحافظ على دولة الجنوب العربي، بدلًا من أن يتركنا في دوامة جمهوريات وتيارات وولاءات متشنجة. قرارات ارتجالية صنعت لنا صداعًا تاريخيًا لا دواء له.
واليوم نقف أمام التاريخ ونسأل—ولا يلومنا أحد: هل كان يكفي أن يؤجّل ارتباكه دقائق معدودة… كي يكتب التاريخ صفحة أقل وجعًا؟
ليته لم يرتبش… لكان الجنوب حفظ هويته الوطنية، وتجنّب صراعات دامية وأحداثًا مؤلمة، وقرارات وُلدت من رحم الفوضى.
ليته لم يرتبش… لربما لم نعرف التأميم، ولا الدماء، ولا تلك “اليمننة” المبكرة التي انتهت بوحدة التهمت كل أحلامنا.
ليته لم يرتبش… وليْتنا نحن أيضًا لم نرتبك معه!
لربما كان المشهد مختلفًا اليوم: لا معاناة من خدمات مقطوعة، ولا وحدة مشؤومة، ولا حوثي، ولا إصلاح، ولا إرهاب… ولا جنوب يقف على أطلال استقلال جاء مبكرًا وجرّ خلفه عواصف لم تهدأ حتى الآن.
وها نحن نقولها بصراحة: ليته لم يرتبش… فهل نتعلم نحن اليوم ألا نرتبش؟
نحن على عتبة ظروفٍ مشابهة، ولا مجال لربشات جديدة. نتمنى ذلك… أم أن ربشة القائد البريطاني لا تزال تطاردنا حتى هذه اللحظة؟
* - عبدالناصر صالح ثابت