*- شبوة برس – أوسان بن سدة
يأتي التقرير الصادر عن The Washington Institute حول “التحوّل الزلزالي في اليمن” ليؤكد ما بات واضحًا منذ سنوات: ما يجري في هذا البلد لم يعد أزمة داخلية قابلة للاحتواء عبر إدارة الصراع، بل تحوّل إلى عامل مؤثر في أمن الإقليم، والملاحة الدولية، وتوازنات البحر الأحمر وخليج عدن.
التقرير يلفت، بوضوح محسوب، إلى أن التحركات الأخيرة غيّرت قواعد اللعبة، وأن انعكاساتها تتجاوز الجغرافيا اليمنية. غير أن القراءة الغربية، رغم أهميتها، لا تزال مترددة في تسمية جوهر التحول: انهيار نموذج الدولة الواحدة، وصعود فاعلين قادرين فعليًا على ملء الفراغ الأمني والسيادي.
من منظور جنوبي، لا يمكن فهم ما يجري اليوم باعتباره “تصعيدًا” أو “إرباكًا لمسار السلام”، بل كتصحيح لمسار فشل طويل. فالدولة اليمنية بصيغتها التي أنتجت عام 1990 فقدت قدرتها على الحكم، وتحوّلت إلى مظلة شكلية تُدار من الخارج، بينما تمدّد الحوثيون كذراع إيرانية، وازدهرت الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب في الفراغ.
التقرير يشير إلى المخاطر، لكنه لا يذهب بعيدًا في سؤال من يملك القدرة على إدارتها؟
وهنا تكمن الفجوة التي ينبغي ملؤها بقراءة واقعية.
الجنوب اليوم ليس كيانًا افتراضيًا ولا حالة احتجاج سياسي، بل سلطة أمر واقع تمتلك عناصر الدولة الأساسية، سيطرة جغرافية على معظم السواحل الجنوبية، مؤسسات أمنية فاعلة، خبرة ميدانية في مكافحة الإرهاب، وشرعية سياسية مستمدة من تمثيل وازن داخل مجلس القيادة الرئاسي، إضافة إلى قاعدة اجتماعية واسعة.
في المقابل، فإن تجاهل هذا الواقع، أو الاكتفاء بإدارته عبر صيغ مؤقتة، لا يخدم إلا خصوم الاستقرار. فالحوثيون، المدعومون من إيران، أثبتوا أنهم يستخدمون البحر الأحمر وباب المندب كورقة ابتزاز استراتيجية. تنظيمات مثل القاعدة وداعش استفادت تاريخيًا من غياب السلطة الفاعلة في الجنوب، وكل ارتباك سياسي يخلق لها مساحة جديدة.
هنا تلتقي القراءة الجنوبية مع التحذير الذي يطرحه التقرير: الخطر الحقيقي ليس في التغيير، بل في إنكاره.
لذلك نقول إن التعامل الدولي المسؤول لا يبدأ من محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بل من الاعتراف بأن الجنوب بات شريكًا محتملًا في أمن الملاحة الدولية، وفي تحجيم النفوذ الإيراني، وفي بناء جدار صدّ حقيقي ضد الإرهاب العابر للحدود.
الاعتراف بدور الجنوب سياسيًا وأمنيًا لا يجب ان ينظر اليه بانه تفكيك اليمن، بل يعني إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاستقرار الإقليمي. فالتجربة أثبتت أن وحدة مفروضة بلا مؤسسات ولا عقد اجتماعي لا تنتج دولة، بل تنتج فوضى قابلة للتصدير.
ما يطرحه تقرير معهد واشنطن، بشكل غير مباشر، هو سؤال الخيارات:
هل يستمر المجتمع الدولي في إدارة أزمة مفتوحة؟
أم ينخرط في مقاربة جديدة، تعترف بالقوى القادرة على فرض الأمن، وتحويلها من “واقع ميداني” إلى شريك منضبط داخل منظومة إقليمية؟
من هذا المنطلق، فإن الجنوب العربي لا يقدّم نفسه كتهديد للنظام الإقليمي، بل كجزء من إعادة ترميمه. وتجاهل هذا المسار لن يوقف التحولات، بل سيجعلها أكثر كلفة وأقل قابلية للضبط .
#أوسان_بن_سدة
سياسي وإعلامي جنوبي