صورة لبستان الحسيني منتصف القرن الماضي قبل أن يطاله الخراب بعد تأميم الجبهة القومية
اتصلت بي سيدة لحجية من أسرة كريمة قبل أسبوعين، وكان في حديثها ثورة، وأكملت حديثها في عدة رسائل هاتفية.. كانت المرأة تذرف دما على المحروسة لحج، أرض القمندان، أرض الزراعة والمسرح والدان، أرض الرياضة والشعر والألحان.. كانت تتحدث عن الأمس واليوم في كل المجالات.. سألتني: هل عندك نسخة من الدستور اللحجي أو كتاب (قصة الدستور اللحجي) للخالد الذكر محمد علي لقمان (1896 - 1966) قلت: نعم.. أحسست أنني في مواجهة بركان وهي تتحدث وتكتب عن فساد القطاعات المختلفة، وسيطول الحديث عن بركان السيدة اللحجية الفاضلة التي قلت لها: أنتي جان دارك اللحجية.
وقفت أمام كتاب (الرحلة اليمنية) 12 أغسطس - 17 أكتوبر 1924 للزعيم التونسي الكبير عبدالعزيز الثعالبي (1876 - 1944م)، تقديم وتحقيق حمادي الساحلي - وورد في الصفحة (181) بأن الباخرة الإنجليزية (ناركنده باكر) وصلت ميناء عدن يوم الأحد 29 نوفمبر 1936م تحمل زعيم الشرق الكبير سيادة الأستاذ عبدالعزيز الثعالبي، وكان الخبر قد سبق قدومه بليلة واحدة بواسطة الإذاعة الإيطالية من باري، وما كادت تبلغ مسامع السلطان عبدالكريم فضل، سلطان لحج في قصر الروضة، حتى تناول الهاتف وتكلم مع الأخوة حسن علي (صاحب الشارع المعروف في كريتر) بشأن استقبال الزعيم، وكلفهم بإبلاغه دعوته للنزول في ضيافته الكريمة.
أبلغ الأخوة الكرام حسن علي، الزعيم التونسي بدعوة جلالة السلطان الذي أوفد سيارة خاصة لنقله إلى الحوطة، حاضرة السلطنة العطرة الذكر، وبعد وصوله أخذ الزعيم التونسي قسطا من الراحة، ثم قام بزيارة النادي العربي (يقصد نادي الإصلاح العربي) بكريتر.
أقلت السيارة السلطانية ضيف لحج الكبير الأستاذ عبدالعزيز الثعالبي، وإلى جانبه المرافق السلطاني الأستاذ عبدالجواد حسن علي، ووصل الضيف الكبير إلى الحوطة في ساعه الغروب، وكان السلطان عبدالكريم فضل في استقباله بالأحضان، وأعدت مائدة عباسية عامرة بمختلف صنوف الأكل والحلويات، فأكلوا هنيئا وشربوا مريئا.
**الإثنين 30 نوفبمر 1936**
الضيف الكبير يغادر مقر إقامته بالسيارة السلطانية صوب قصر الروضة، وكان في استقباله السلطان عبدالكريم وكبار الضيوف والأعيان والشخصيات اللحجية، وتحلقوا حول مائدة عامرة، وقضى الضيف الكبير وقته في حضرة السلطان إلى العصر ثم ركب بعد ذلك السيارة السلطانية إلى قصر الألعاب الرياضية، المعروف بقصر التنس المشيد في ضاحية الشكعة على بعد 6 أميال من الحوطة، وأغلب أشجاره وزهوره من النباتات الهندية، منها المثمر وغير المثمر.
عاد السلطان وضيفه العزيز قبل الغروب إلى قصر الروضة، وطاب السمر هناك حتى وقت النوم.
**الثلاثاء 1 ديسمبر 1936**
رأى السلطان عبدالكريم فضل أن يبعد ضيفه العزيز عن السآمة والملل فقرر أن يقضي اليوم مع ضيفه في عدن، فركبا السيارة ساعة الظهر ونزلا في القصر البديع الذي شيده قبل عامين، وأقيمت مأدبة إفطار، حضرها أكابر العدنيين، وفتحت قاعة الاستقبال أمام أصحاب المنتديات والشباب المعجبين بالزعيم الثعالبي، واستمر حفل الاستقبال حتى منتصف الليل.
أُعدت للضيف الكبير برامج منعشة خلال أيام الأربعاء 2 ديسمبر والخميس 3 ديسمبر والجمعة 4 ديسمبر، وفي هذا اليوم نظام غذاء غير النظام الذي رآه بالأمس، حيث شاهد نظام الرَّي الزراعي، وهو نظام بديع يعود إلى أيام بني زريع، وأعجب الزعيم التونسي بذلك النظام، أما نظام غذاء اليوم فهو غذاء العقول، حيث زار المكتبة السلطانية التي أنشأها السلطان حديثا لتثقيف الشعب وتفقد نظامها وتراتيبها، وأسدى الضيف الكبير عددا من النصائح للارتقاء بعمل المكتبة التي قضى فيها نحو ثلاث ساعات، وهو يقلب الكتب والمراجع (ص 184)، وغادر صباح السبت إلى عدن.
أقف عند هذا الحد، وقلت في نفسي: أهذه هي لحج التي زارها الرجل الكبير عبدالعزيز الثعالبي قبل (80) عاما عندما كانت سلطنة تتسلطن في أمور حياتها (نظام حكم زراعة صناعة ثقافة فن رياضة).
قهري على أرض القمندان التي أصبحت مرتعا لأعمال الإرهاب التي خطط لها وينفذها عرابدة حاشد وسنحان، أصبحت لحج منطقة رعب تصول الدراجات النارية وتجول، وهي تغتال وتدمر وسط صمت وجبن جنوبيين من داخل السلطة ومن خارجها.
* نجيب محمد يابلي - الأيام