في مسيرات الحراك الجنوبي، ومليونيّاته، والإعتصامات، والوقفات الإحتجاجية لمنظّمات المجتمع المدني الجنوبي، كانت له بصمة وحضور لافت، بجسده النحيل، وساقيه الرفيعتين. إنه ذلك الرجل الذي اختطّ الشيب رأسه وسحنته، فارضاً بياضه حول الوجه الشاحب، والعينين الغائرتين. كان يشعر معظم من رافقه، في جبهات القتال، ومعارك الكرّ والفرّ، بالعجز والضعف. عادةً ما كان يجبرهم على اللهث وراءه، وهم يردّودن عبارة: "أتعبت المناضلين بعدك".
وحده نسيج
العميد حريز الحالمي لا يعرف تعدّد المواقف باسم السياسة ومقتضيات اللحظة. هو نسيج وحده. في كل المواطن لا يتبدّل له رأي ولا تذل مواقفه كلها، كان يقول: "دائماً نحن أصحاب الحقّ، وراية الحق سترتفع يوماً، وسنسعى لأن تسود خفّاقة بشرف، وعدل، وإنصاف، واستقامة، وإن جاء الحق بغير ذلك؛ فلا خفقت له راية، ولا دُقّت طبوله".
ملّ كثيرون في مسيرة الحراك الجنوبي، وتهاوت أثناءها عزيمة شخصيات. تراجع نشطاء وأرهقهم طول المسير، وتصاعد قمع السلطات... ولم تنل كل تلك المنغّصات من عزيمة الرجل.
يقود سيارته ويهاتف "الزعيم باعوم" في حضرموت، عندما كان خارج السجن حينها: "سأصل إليك خلال ساعات"، ويفعلها. ومن حضرموت، يعود العميد، ووجهته جبال يافع، يلتقي قيادات من الحراك هناك، ويمرّ بمنزله في عدن، لا ترانزيت، ولا استراحات، في قاموس الشيخ العنيد.
وحين تأتي مجهوداته أُكلها، وتتوّج رؤيته، واقعاً على الأرض، يتوارى هو كعادته، خلف المشهد، يتوسّد كرتوناً، إن وجد، وسط الجماهير. لا يعرف تعدّد المواقف باسم السياسة ومقتضيات اللحظة
حريز الشقي
لم يكن عمله قاصراً على المجهود الحربي، أو التطوّعي، أو المشاركة في فعاليات الحراك الجنوبي، بل تعدّى ذلك إلى أن قدّم رؤية سياسية لطريقة عمل مكوّنات الحراك، كما كان يراها هو، وحرص على التواصل مع وسائل الإعلام المحلّية، لنشرها على أوسع نطاق. جاءت الحرب الأخيرة، وهو لا يزال يعدو، وراتبه الشهري مقطوع، لا دعم أو مخصّصات تأتي العميد حريز. كل ما يملك، قدّمه للجنوب، وهو راضٍ بذلك.
حريز المجالد
أصيب قبل أسبوع، بعبوة ناسفة استهدفت سيارته، أو ما بقي منها، سيارة اشتراها العميد من حرّ ماله.
تفجير تبنّاه تنظيم "الدولة الإسلامية"، لاحقاً، بعد أن كان أوسط أولاده الثلاثة قد قتل في معركة المطار، وأما أصغرهم فمصاب ضمن جرحى الحرب الأخيرة على عدن.
وظّفت أسرته نجلها ليتولّى توزيع وجبات الطعام، الذي تعدّه أمّه، على نقاط الحزام الأمني الممتدّ من مزارع جعولة، إلى محيط مطار عدن الدولي، منذ شهور. فيما يرابط حريز، في تقاطع كالتكس، تحت حرارة شمس عدن اللاهبة، دون أن يستلم أي مخصّصات أو دعم، أو راتب، أو سيارة. حتّى المواد الغذائية لجميع أفراد النقاط الأمنية، يتولّى توفيرها بنفسه، يومياً، دون كلل أو شكوى أو ملل.
نجله المصاب بفعل الحرب، لم يطالب حريز بعلاجه في مشافي بريطانيا، أو حتّى أبوظبي، كغيره من الجرحى، فهو آخر من يزاحم في الطوابير، لأي سبب كان.
تُصرف مليارات الريالات، من ميناء المنطقة الحرّة التي يؤمّنها وجنوده منذ بداية الحرب، وسقط عدد كبير من أفراد حراسته، لدى تصدّيهم لمسلّحين، حاولوا مرّات عديدة اقتحامها، ورفض العميد مخاطبة إدارة الميناء بمنحه مخصّصات، يستحقّها نظيره في العمل. لا يجيد مطلقاً طرق الأبواب المغلقة، بحثاً عن منحة، أو مال. تعوّد، منذ انخراطه في الحراك الجنوبي، قبل جميع القيادات المعروفة، أن يكون هو مانحها بما تيسّر.
نذر وقته وماله ونفسه وطعامه للجنوب. تهاوت سيارة كان يملكها قطعة قطعة، بفعل أسفاره الطويلة، من المكلا شرقاً، إلى جبال يافع الوعرة شمالاً، وليس انتهاء بمنحنيات طريق الشعيب الضالع، وكل مديريات محافظة عدن، في محاولات رأب الصدع، بين قيادات الجنوب.
دون كلل أو ملل أو منّ أو رياء، سنوات، ولمئات المرّات، والعميد حريز، يسدّد ويقارب ويصلح، بين قيادات الحراك. شارك بالفعاليات جميعها، سلمية وعسكرية، ومكانه أبداً خلف الكواليس، صامتاً يترقّب فلا استراحات محارب في سيرة حريز المجالد .
رحمه الله تغشاه
*- بقلم : الذيب الكازمي - عدن العاصمه