أحفاد ترامب ودولة فلسطين.. ديالكتيك ‘‘الفترة الوجيزة‘‘

2017-02-21 06:05

 

الفترة الوجيزة، التي قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه طلبها من نظيره الإسرائيلي نتنياهو لتعليق خطط بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، مثيرة للجدل، واعتبرها بعض المراقبين كلاما فارغا وغير سياسي البتة.

فالفترة الوجيزة التي جاد بها منطقه اللامسؤول تتعلق بقضية مصيرية بالنسبة لشعب مُحتل، ولا يمكن تفسيرها سوى أنها تندرج في سياق «الهزل التراجيدي» لمهرج سياسي كثرت عليه المآخذ في أحاديثه المتلفزة، وفي طريقة عرضه للمواقف حيال مسائل كبيرة. الفترة الوجيزة في لغات الدنيا قد تعني أياما أو أسابيع أو حتى بضعة شهور، وهي أقل بكثير مما تحتاجه حكومة نتنياهو لتجهيز إجراءات بناء مستوطنات جديدة. وكأنه يقول لنظيره الإسرائيلي: لا تتأخروا كثيراً في مواصلة بناء المستوطنات فـ»الفترة الوجيزة» لا تحمل أي دلالة، سوى أنها فائض لغوي في تأكيد موافقتنا على مواصلة بناء المستوطنات، ولا تعني لنا أكثر من رفع العتب عند جمهور العرب بألوانهم المتطايرة، وكذلك عند حلفائنا الأوروبيين الغارقين في قضاياهم الداخلية.

 

كان موقف «التكتل الصهيوني» وبعض رموز السياسة الإسرائيلية من اليسار والوسط، أكثر جرأة من رئيس الولايات المتحدة. فقد حذّر رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك من «أن تشريع سلب ونهب الأراضي الفلسطينية ضمن ما يعرف بقانون التسوية، سيقود إلى استحالة إمكانية تسوية الصراع مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين، ما يعني بقاء دولة واحدة ذات غالبية عربية تقوم على أساس الفصل العنصري (الأبرتهايد)، وحرب أهلية تهدد الصهيونية برمتها».

 

ذلك المفهوم لم يجل بخاطر ترامب ليحاجج به ضيفه شكلياً، ويظهر بمظهر المتحدث الذي يمتلك الحد الأدنى من وعي رئيس دولة عظمى، وليس الرجل الأعمى المرتبك، الذي بدا في مؤتمره الصحافي وكأنه هو الضيف ذو اليد السفلى وليس نتنياهو الذي قدّم نفسه كرجل البيت الأبيض وأُعطي مجالا واسعا لأن يسترسل في بث سموم المغالطات، ويضع مطالب جديدة على الفلسطينيين لتنفيذها، وكأن العالم لا يفهم أن فلسطين لم تعد تملك شيئا تتنازل عنه سوى حياة شعبها وترحيل ما تبقى منه إلى خارجها، وأن سياسة إسرائيل من منطق اليمين المتطرف لا ترغب في بقاء أي شعب يحمل ذاكرة فلسطينية على وجه المعمورة.

 

حديث ترامب عن حل الدولتين أو الدولة هو الآخر حديث ملغوم، فلم يأخذ الرجل كما يبدو وقتاً كافياً لقراءة الفارق الحقيقي بينهما، وقراءة منطلقات الإدارات الامريكية السابقة في مواقفها المؤيدة بصورة معلنة لحل الدولتين، فالأمر بالنسبة له لا يعدو أن يكون صفقة يتفق حولها الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي، وسيذهب مع اسرائيل في ما تختاره، باعتبارها الطرف الأقوى في إبرام الصفقات. هكذا يفكر الرجل الذي تكلم ولم يقل شيئا وثرثر ولم يحدد شيئاً مفيداً، فالمستوطنات أعطاها إشارة صفراء لفترة وجيزة حتى ينطلق الضوء الأخضر بالموافقة غير المعلنة، كما أنه «يرغب» حسب قوله في نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة، ولكنه سيفكر لبعض الوقت أو ينتظر للوقت المناسب. أما حل الدولتين أو الدولة فإنه سوف يختار ما ترضاه اسرائيل لنفسها.

 

أمريكا إذن تتخلى عن مفاهيمها التقليدية ومواقفها الكلامية، التي هي في الأصل قاصرة، ولم تحقق الحد الأدنى المطلوب والمرجو، للمساهمة في وضع إطار موضوعي لحل قضية شغلت العالم طيلة سبعين عاما، وكانت تقدم نفسها راعية للحرب والسلام بين العرب وإسرائيل. رؤساء الولايات المتحدة من جانبهم تمايز أداؤهم تجاه قضية فلسطين بين فترة وأخرى، وفقاً لظروف المنطقة، وكانت هناك رؤى تطورت حتى أصبحت شبه علنية، على الأقل في ما يتعلق بالمستوطنات ونقل السفارة وحل الدولتين. ورغم انحياز الإدارات الأمريكية الكامل والمستمر لإسرائيل، إلا أنها كانت تفهم أن هناك خطوط حمر لا يصح تجاوزها، لأنها ستزيد المنطقة اشتعالاً، ولأنها ضارة في نهاية المطاف بإسرائيل ذاتها.

 

هناك توافق واضح الآن بين اليمين الإسرائيلي الصهيوني واليمين الأمريكي، الذي تمثله الإدارة الحالية، ربما بطريقة لم تشهدها العقود السابقة، كما أن هناك كيمياء جديدة تربط شخصية الحكام في البلدين، ليس فقط بسبب ظروف منطقة الشرق الأوسط وذرائع الإرهاب وغير ذلك، ولكن لاعتبارات ذاتية أيضاً، قد ترجح مزيدا من اقتراب ترامب من رؤية نتنياهو حول يهودية الدولة وشروطها. ولعل أوضح عبارات ترامب التي تجلت في لغة التودد والمجاملات، هي تأكيده بأن أحفاده من ابنته المقربة إيفانكا سيكونون من أصول يهودية، وبالحمض النووي الدال على العنصر الشديد النقاء وفقاً للمقاييس العرقية لليهود. وهذا يعني بالمفهوم الشعبي الفصيح أن هناك رابطة دم قوية مع إسرائيل، لا تحتاج أي فعل إضافي لتأكيد موقف ترامب الداعم بلا حدود لدولة أحفاده القادمين.

 

تلك لغة، تضاف إلى مجمل السياسات، لا تدل على أن صاحبها يقود دولة علمانية ذات أصالة ضاربة في الجذور البعيدة.. دولة التنوع البشري والثقافي التي اجترحت تواريخ صعبة لتبني حضارتها بصورة متراكمة، حتى وصلت إلى هذه الحالة الدستورية والمؤسسية الجامعة للقوميات والأعراق والأديان.

 

إن حل الدولة الواحدة الذي يُروَّج له الآن، خلافاً للأدبيات السياسية التي عرفها العالم، وكان آخرها ما خرج به مؤتمر باريس، لن يحمل مفهوم الحل البديل، أي دولة ديمقراطية علمانية، مثلما بلورها اليسار الإسرائيلي والفلسطيني في حقبة زمنية سابقة، أو ما يلوح بها بعض الساسة الفلسطينيين في وجه الحكومة الإسرائيلية كحل اضطراري، بل ستكون، حسب مفاهيم اليمين الصهيوني، دولة واحدة يهودية تقوم على إلغاء الحق الفلسطيني في ما تبقى له من أراضي في المرحلة الأولى، وقد يقابلها في مرحلة لاحقة كيان فلسطيني محدد (أقل من الدولة)، خارج فضاء الدولة العبرية، ربما في غزة ومحيطها أو امتداداتها الخارجية. وهذا يتطلب زمناً كافيا لبناء الأمر الواقع بالكيفية نفسها التي درجت عليها إسرائيل منذ حرب 67.

 

من جهة مقابلة لا أحد يعتقد أن الوضع العربي جاهز لأي تحديات بهذا الحجم، كما أن الانقسام الفلسطيني في الداخل وعدم تمكن القيادات في رام الله وغزة من تجاوز محنة السلطتين والمؤسستين، سيكون له أثر بالغ في تمكين إسرائيل من إرساء مفاهيم جديدة للصراع، أي أن الأمر الآن يجب ألا ينحصر في تحليل مواقف الآخرين وما سيفعلونه، ولكنه يتطلب معالجات الأوضاع الداخلية وتمكين الشعب الفلسطيني من الثبات أمام التحديات المقبلة، فالأوقات المقبلة عصيبة للغاية وتحتاج إلى نوع مختلف من المواجهات لإنقاذ «دولة فلسطين» المنشودة.

 

*- كاتب سياسي جنوبي – خبير نفطي – كندا