تنتشرُ في حضرموت وكثيرٍ من مناطق العالم الإسلامي مناسباتٍ اجتماعيةٍ ذات طابعٍ ديني مرتبطٍ ببعض الشخصيات فيما يُعرفُ بالحوليات أو الزيارات التي تقام سنويا في شهر معين متكرر من الزمان وموقع مرتبط بصاحب الذكرى كمكان ضريحه أو مسجده أو معهده أو بلدته وتتنوعُ فيها الفعاليات بين الدينية والاجتماعية والثقافية والتجارية وهي ظاهرةٌ حضاريةٌ في حد ذاتها تدلُ على عمق الوعي لدى المجتمع في إحياءِ الذكرى وتقديرِ صاحبها ومناسبتها بما يجعلها فعالية متجددة النفع والفائدة.
وكانت حضرموت قبل قرنين من الزمان مرتعا للصراعات القبلية المؤذنة بإرهاصات نشوء الدولة طغى بسببها حالةٌ من الفوضى وفقد الأمان والسلم الاجتماعي بما أثّر على مستوى الحياة المعيشية للناس فكان من مهمام العقلاء ودعاة السلم العمل على تقليل حدة الصراعات وأثرها السلبي على حياة الناس فظهرت المساعي الإصلاحية من رجال العلم والصلاح كلٌ في مجال منطقته وحدودِ نفوذه ووجاهته لدى القبائل المختلفة.
وقد عاشَ في مدينة القطن في القرن الثالث عشر الهجري السيدُ العلامةُ المصلح الاجتماعي الحبيبُ عمر بن محمّد الهدار ابن الشيخ أبوبكر بن سالم وكان رجلاً داعيةَ إصلاحٍ بين الناس أثر عنه عدد من المساعي الخيرة كالصلح بين القعيطي والكثيري على مناصفة مدينة شبام سنة 1275 هجري (تاريخ ابن حميد ج٢/ص١٦٥) وله عددٌ من المساعي الإصلاحية الثنائية بين بعض القبائل وقد كانت وفاته في ١٣ جمادى الآخرة ١٢٨٤هـ في مدينة القطن وقد عُقِدَ بعدَ وفاته سنة ١٢٨٨هـ صلحٌ عامٌ سنويٌ لمدة شهر جمادى الآخرة من كل عام تم توقيعه داخلَ قبته وبحضور أعيان من أسرة آل الشيخ أبوبكر ومنهم ابنه محسن بن عمر وممثلي عن قبائل وعشائر منطقة القطن عامة ولعل الصلحَ مبادرةٌ من هؤلاء عرفانا وتقديرا لمكانته أو بوصيةٍ منه، وقد نصت وثيقةُ الصلح على (صلح دائما سرمداً في كل سنة على قواعد إصلاحهم في دم وفرث وشايم ولايم وحاذ وباذ بين طالب ومطلوب واتبادوا عليه مباداة في الوجيه عند القبر إلى أن يشيب الغراب ويفنى التراب ويرث الأرض وارثها صلح شهر جماد آخر كل سنة...) وفي هذا النص ألفاظُ مصطلحاتٍ عرفية تعني في مجملها الكف والتوقف عن كل أسباب ومظاهر تعكير الحياة العامة وكان بمثابة هدنة سنوية سرمدية أُمنت بها المنطقة وأنعم الناس خلالها بالاطمئنان والسلم فكان من آثار ذلك :
١) شيوع الأمن والطمأنينة بين الناس وتوقف كل مظاهر الصراع المقلقة.
٢) ازدهار الحركة التجارية وتفرغ الناس لقضاء أوطارهم المعيشية في سكينة وهدوء.
٣) جعل القطن قبلةً لكل ساكني الوادي بل ومن خارجه خلال هذا الشهر لتبادل السلع التجارية بين مناطق غرب الوادي وشرقه.
كلُّ هذه العوامل إضافة إلى الموقع الاستراتيجي لمدينة القطن أدى إلى ازدهارها وتعزيز مكانتها بين مدن الوادي عامة.
وقد كان لموسم زيارة الهدار بالقطن زخمٌ اجتماعيٌ وتجاريٌ ليس له مثيل فكان سوقها من أكبر الأسواق التجارية الموسمية التي ينعم الناس فيها بقضاء حاجاتهم حتى ارتبطت مناسباتهم الاجتماعية كالزواج والسفر بهذا الموسم، وكان للسلطات الحاكمة في كل عصرٍ اهتمامٌ بهذا الموسم وتنظيمهِ والحفاظِ عليه ففي عصر السلطان على بن صلاح القعيطي كانت مدرسة الهدى تقيم احتفالاً كبيراً كلَّ عام بمناسبة الزيارة تُعرضُ فيه الخطب والمسرحيات وكان يحضره السلطان نفسه وبعض كبار ضيوفه حتى من الشخصيات الأجنبية (حياة جديدة/سعيد عوض باوزير) وفي عهد ما بعد الاستقلال كان للسلطات اهتمامٌ بالموسم التجاري وتشجيعه وإعطائه الزخم الذي يليق به رغم تجاهلهم الفعالية الدينية وإهمالها ومحو اسم صاحب الزيارة والسطو على المقبرة ومحاولة طمس كل آثارها.
أما في عهد ما بعد الوحدة فقد بدأت مظاهرُ السوق التجاري تضعفُ وتتلاشى بحكم انفتاح النشاط التجاري في عموم المناطق وسائر الأوقات وفي المقابل ازدهرَ نشاطُ عدة الألعاب الشعبية في إحياء ذكرى الزيارة بفعاليات المطلع السنوي في جمادى الآخرة من كل عام مع سوق لابأس به للمواشي والمصنوعات اليدوية وألعاب الأطفال والحلويات.
إنَّ المتأملَ لتاريخِ هذه الزيارة وذكراها وامتدادها لأكثر من قرن ونصف من الزمان يجبُ عليه في الوقت الحاضر الاستفادةَ من مدلولها وأهدافها الراقية والعمل على مايلي :
١) نشر ثقافة السلم الاجتماعي والتعايش الودي بين أفراد المجتمع والتعاون مع الجهات الأمنية للحد من الجريمة ومظاهر تعكير الحياة العامة.
٢) إحياء ذكريات الشخصيات الهامة والتعريف بها وتقدير مكانتهم والأدوار التي قاموا بها للتأسي بهم.
٣) إحياء الموروث الشعبي والعادات والتقاليد التاريخية التي من شأنها ترابط المجتمع وتعزيز وشائج التعارف والتقارب بين كل الفئات.
٤) الاستفادة من مظاهر التسويق الحديث وإقامة المهرجانات التجارية والترفيهية للجمع بين الأصالة والمعاصرة.
٥) تعزيز الدور المجتمعي للنهوض بالمدينة وقراها بالتعاون مع السلطة والمشاركة الإيجابية في إيصال الخدمات وبناء الإنسان وتنميته في كل النواحي.
إنَّ إحياءَ ذكرى الزيارة ضمن هذه الرؤى يتطلبُ وعياً حقيقياً لدى الجهات المسؤولة اليومَ ولدي كافة النخب المثقفة يكون همها المحافظة على تاريخ البلد وموروثها وإصلاح المجتمع وتنميته نحو الرخاء والاستقرار.
بقلم : غالب محمد الهدار
سيؤن _ حضرموت
جمادى الآخرة 1440هـ