الرفاق الماركسيون والزمن الأغبر !‍!.. حديث مناجاة إلى عدن 5-6

2020-08-08 10:10

 

لم تكن الغربة خياري عندما سافرت مجبراً ذات ليلة سوداء مظلمة شديدة البرودة وبنظرته الثاقبة للتقلبات السياسية في الجنوب  قرر أبي أن أغادر الوطن وحاولت  إقناعه بأن نخرج سويا ولكنه رفض، وخرجت وحدي مع جمع من الحجاج برا وما إن وصلنا الطائف حتى التقطنا خبر اغتياله عبر "إذاعة صوت الجنوب الحر" من قبل زبانية الحزب الاشتراكي ،الذين قاموا إثر اغتياله بطرد الكثير من عائلات الثوار العوالق الذين عبروا الحدود إلى " كور العوالق" وكنت معهم ولكن أعمامي وقيادة الثورة أقنعوني بالعودة إلى نجران للالتحاق بالإذاعة واستقبال ورعاية العائلات المطرودة من منطقة العوالق وعدنا من الكور أنا ومجموعة من أقارب تلك العائلات سيرا على الأقدام عبر سلسلة جبال الكور حتى الظاهر في اليمن الشمالي مدة 8  أيام متتالية !َ!!

ثم بالسيارات إلى صنعاء فوادي عبيده "مأرب" ثم إلى نجران مدة 4 أيام أخرى  .

 

السعودية دار العز والكرم :

لا يمكن أن أنسى مواقف المملكة العربية السعودية وملوكها الأشاوس الذين سمحوا بدخول عائلاتنا وفتحوا لنا بلادهم وديارهم وأسكنونا بين مواطنيهم وشعبهم الأصيل في نجران وجده والطائف وواسونا وآوونا وأكرمونا ولم نشعر يوما بالغربة والكربة ونحن معهم فالله درهم من عرب كرام لقد  طوقوا أعناقنا بجودهم وكرمهم ونخوتهم  أبد الدهر ..وكان معي والدتي واخواني محمد وأحمد  وزوجتي الطيبة أم جمال  ومنذ السبعينات وحتى اليوم لم نشعر بالغربة في أرض الحرمين الشريفين واعتبرناها وطنا ثانيا لنا.

ولا زلت أتذكر ما كابدت من قهر وألم باغتيال أبي ومغادرة وطني الجنوب... كنت يافعا لا أقوى على فراقه وبدأت اشق  طريقي رغم المسؤولية الثقيلة و رحيل الجسد الغض الصغير وابتعادي عنه ومرارة اليتم والغربة  فقد بقيت الروح معلقه في خلايا النحل وأغصان السدر في الصعيد الأخضر و عناقيد الفل والياسمين التي  تتسلل مع الغروب  وتذوب فيها ذكرياتي مع صفائح الكادي ورائحة البخور الذي تتضوع  كل مساء وتذكرني  بعدن!!

 

خرجت والخوف يسكن وجداني عندما بدأت الثعابين والعناكب تخرج من أوكارها تلدغ كل جمالياتك وتنشر الموت في ربوعك في السبعينيات .. خرجت منك وفارقتك مكرها ، وظننت أنني سألتصق بالغربة في المكان الجديد وشربت مرارة  البعد  عنك يا وطني  وسط أحلامي المجهضة التي مهما ادعيت انصهاري في بلاد الغربة إلا أن الجسد والروح كانا ملكاً لك ولثراك وحدك !! ..

وفي كل مساء تتسلل الذكريات إلى شراييني ويطل الحنين إليك من أوردة القلب المكلوم بفراقك وتتسلقين ذاكرتي كطفلة تعبث بأوراقي وتسافر في دمي ورغم السنين والفراق عنك إلا إنني أتلمس في ذاكرتي شرفاتك وأتنفس هواك ويتسلل ضوء مصابيحك إلى حدقات عيوني .. ويتصفح الضوء وجهي كل ما أشرقت شمسك أو غابت عليك..!!

 

احن إلى ملامحك وبناياتك وعمارتك الطينية وجبال الكور الشامخة وتضاريس جبل شمسان وصخور العقبة في شارع أروى ومكتبة الجيل الجديد وصوت  أمواج البحر التي تتكسر على شواطئك  في ساحل أبين وجولد مور يتردد صداها في أذني ..!!

 

أحن إليك يا وطني ولا زال الضوء يتسلل من نوافذ بيوتك الجميلة في خور مكسر ويأبى الخروج من عيوني وخلايا ذاكرتي ويواسيني في وحدتي !!

 وتتساقط الدموع على وجهي وتلسعني حرارتها حتى ترتعش أهدابي كلما تذكرتك .

لم أدمن مدينة يوما مثل ما أدمنتك ، وأنا أتنقل في مدن الشرق والغرب وأعبر المطارات وبقيت وحدك تسكنين وجداني وتحلقين معي كحمامة بيضاء استحضر معها روائح أزقتك وطعامك المميز ورائحة البخور وفناجين الشاي العدني تتسلل رائحتها إلى انفي ..وطعمها إلى فمي ..رغم المسافات التي اختزلها شوقي إليك !! يا عدن يا مدينة الأحلام.. ستظلين مسقط قلبي وخلايا وجداني والقي وضيائي وعندما تكالب عليك الطغاة والبغاة والغزاة إبان العهد الماركسي ..وما أعقبه من غزوات متلاحقة واجتياحات مدمرة عفاشية – حوثية في أعوام 1994م - 2015م عندما انحدر الغزاة من الكهوف والجبال من شمال الشمال ..ضاقت بنا الدنيا في الغربة عندما سمعنا أن الغزاة يدكون عدن بالمدافع وأهلها يموتون تحت الأنقاض.. ونادى فينا المنادي أن حي على الكفاح والدفاع عنها !!

هب شباب الجنوب كالأسود ورحلوا إلى عدن ورحلت معهم تسبقني أشواقي إليك وعدنا إلى حضن الوطن تركنا الغربة والأهل والولد ..وهجرنا الحياة ..وحملنا السلاح للدفاع عنك.. قاتلنا من أجلك وسقط الكثير منا على ثراك وطرقاتك منهم من بترت أطرافه ومنهم من رزق الشهادة!!

حاول تتار العصر محو معالمك التاريخية بنيران دباباتهم وصواريخهم وصبوا جام غضبهم وحقدهم الدفين على سكانك وأسواقك وبناياتك وهندستك المعمارية التي تجسد روائع الحضارات!!!

أراد تجار الموت و القتل والمساومات والاغتصاب احتلالك وتشويه جمالك الأخاذ عبر السنين وإذلالك وتدميرك ...قصفوا الحجر والبشر والشجر وأرادوا أن يسلبوا منك الحياة ويدفنوا أحلامك يا سيدة المدن !!!

ولكن هيهات فقد قاومناهم وأجهدناهم ومن أجلك رخصت الأرواح وسالت الدماء وتعفرت الوجوه بثراك الطاهر وأصيب رفيقي "عمر " إصابة قاتلة  ووسدته رجلي حتى فاضت روحه .وكان آخر مشهد يراه  في حياته  هو جبل شمسان الأشم يقف منتصبا وسكنت روحه  لرؤيته وتحجرت عيناه  وهما تنظران إليه وأكرمه الله بالشهادة ومات على ثراك الطاهر وفاضت روحه الطاهرة  وأيقنت أن نصرك آت عما قريب.

د. علوي عمر بن فريد