صحيفة الشرق الأوسط: فرّ من الموت وفي الموت وقع

2022-09-16 10:05
صحيفة الشرق الأوسط: فرّ من الموت وفي الموت وقع
شبوه برس - متابعات - جـدة

العالم يتطلع ويتابع تأبين وجنازة الملكة البريطانية إليزابيث، وأنا سوف أعود بالتاريخ إلى عام 1954، عندما قررت أن تترك جميع بلاد العالم وتتوجه على ظهر يختها الملكي مع زوجها إلى (عدن) عندما كانت في ذلك الوقت هي أجمل وأرقى وأنظف مدينة في الجزيرة العربية

واستقبلت من المسؤولين أروع استقبال ثم استقلت السيارة وتوجهت إلى فندق (كريست) وسط حشود شعبية كبيرة، وفي المساء افتتحت مستشفى (الملكة إليزابيث) الكبير الذي يحتوي على سكن الأطباء والممرضين العرب والأجانب، وهو مجهز بأول تكييف مركزي بالمنطقة

وعدن في ذلك الوقت كان فيها أهم مصفاة، كما أن الصناعة والتجارة والسياحة والبنوك والمصارف والمرافق الخدمية مزدهرة فيها، إلى جانب المدارس والملاعب والحدائق، إضافة إلى القلاع والحصون والقصور

هكذا هي عدن كانت، في الوقت الذي كانت فيه (سنغافورة) تغط في الظلام والفقر والقذارة، وتسودها الجرائم والسرقات، غير أن رئيسها (لي كوان) شمر عن (أكمامه وعقله)، وها هي اليوم سنغافورة أنظف مدينة في العالم، ودخل الفرد السنوي فيها في حدود (80.000) دولار، بعدما كان (zero) - تقريباً

ولم يفعل مثلما فعلوا من تتالوا على حكم (اليمن الجنوبي)، عندما أخذهم الجهل وأخذتهم العزة بالإثم، وبدأ التنافس والتصارع بينهم على الحكم إلى أن حصلت المذبحة التي قتل فيها عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر، وهرب ونفذ بجلده علي ناصر محمد، ولم يبق سوى علي سالم البيض الذي نجا من تلك المذبحة الرهيبة بأعجوبة، لهذا ارتعدت مفاصله واتخذ قراره المتسرع الذي ندم عليه فيما بعد وهو توقيع الوحدة مع اليمن الشمالي، وكأني به (فرّ من الموت وفي الموت وقع)

وعندما حاول التراجع لم تسعفه الظروف، وبعد عدة سنوات من الاقتتال، دخلت قوات (علي صالح) عدن وجعلت سافلها عاليها، وهرب (البيض) إلى سلطنة عُمان التي منحته حق اللجوء

ولو قدر لليمن الجنوبي عموماً تجنب (الانخراط والغرق) في خزعبلات (الثورية والاشتراكية والوحدوية)، وسارت على منوالها الواقعي والعقلاني الذي كانت عليه منذ الثلاثينات والأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن الماضي حتى الآن، لكنت أجزم وأراهن على أنها اليوم أرقى من أي دولة عربية، ويا ليت الرئيس اليمني الجنوبي السابق (البيض) يقرأ مراهنتي هذه، عله بعدها (يعض أصابع الندم) - كنوع من تبرئة الضمير لا أكثر ولا أقل

ورحم الله الشاعر اليمني الكفيف (البردوني) عندما قال:

تبكي وتندب قوماً كلما خرجوا/ من معبر مظلم في مثله دخلوا

كأنهم وسط نار الحرب موقدها/ في الأرض ما خلقوا إلا ليقتتلوا

*- مشعل السديري.. كاتب سعودي