ذكريات معلقة في خلايا الذاكرة!!

2023-06-17 11:41

 

ذكريات من الزمن الجميل لا زالت حية تنبض داخلنا نتذكرها ونستعيد صورها الجميلة من ماضينا في كل وقت وحين وخاصة وبلادنا وشعبها يعاصر أسوأ الأزمات اليوم  لنواسي أنفسنا ونداوي بها آلامنا وجراحاتنا.

نستدعي كل الصور الجميلة التي مرت في حياتنا بعد تنقية الذاكرة من الصور المزعجة ويأخذنا الحنين  إلى الأشخاص الذين فقدناهم، إلى الأماكن الخالية، إلى أيام الطفولة البريئة، إلى أصدقاء الزمن الجميل، إلى العلاقات الاجتماعية القوية، إلى بساطة الحياة، وإلى التفاصيل الصغيرة، وربما حنين إلى أنفسنا: شكلنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا التي طوتها الليالي  الأيام. ومن جهة أخرى قد تكون انعكاسا للخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، أو رغبة في العودة إلى هذه الأزمان والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون. فهل كان كل شيء جيدا؟ ما الذي يجعلنا نشعر بجماليات الأشياء بعد انقضائها أكثر من استشعارها أثناء اللحظة وفي زمانها ومكانها؟!!

الناس يتباينون في طريقة تقييمهم للماضي؛ فالبعض قد يراه جميلا، والبعض الآخر قد يجد في استرجاعه الألم والحرمان، كل تبعا لتجاربه الشخصية، والحقيقة أننا نمارس في استرجاعنا لذكريات الماضي بعض أخطاء التفكير ومنها: التفكير الانتقائي بانتقاء الإيجابيات وتجاهل السلبيات، والمبالغة، والتعميم الزائد، والتفكير القطبي (الكل أو لا شيء، أبيض أو أسود)

والحنين إلى الماضي قد يمتد للماضي البعيد الذي لم نعايشه أصلا، يدفعنا إليه تلك الصورة التي نراها في صور وأفلام الستينات والسبعينات.. روح الود بين أبناء القرية والحارة ، وأخلاق وشهامة الناس ، والحياة الراقية والذوق الرفيع في الأدب وفى الفنون، الحياة الهادئة والشوارع النظيفة الفارغة، والنفوس الطيبة الصافية، والترابط الأسري، والوجوه الجميلة بلا مساحيق.. إنها الحياة النظيفة!!

صحيح أن الأنفس قد تغيرت وأعمتها المصالح والكراسي، وأن الحضارة التي ألبست الناس أرقى أنواع الملابس، لكنها جردتهم من القيم الإنسانية!! وأن التكنولوجيا التي جعلت من وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة أقرب من حبل الوريد، لكنها انقطعت عمدا عن التواصل مع رفاق الماضي والحاضر.. وبرغم ذلك لا ينبغي أن يأخذنا الإسراف في الحنين إلى الماضي إلى الحد الذي يُفقدنا التعامل مع الحاضر وهدم المستقبل.

من منا ليس بداخله الكثير من الذكريات التي تعيش معه منذ سنوات بعيدة، وتتجدد من حين لآخر بداخلنا لا ينساها ولا تستطيع الأيام أن تنسيه تلك الذكريات المحفورة داخل الذاكرة والقلب ؟!!

بيوت دافئة، شارع صاخب ولعب حتى التعب، مجلس يجتمع فيه  كل أفراد العائلة يقص فيه كبار السن من  الآباء والجدات  أجمل القصص الهادفة ومذاق الفاكهة اللذيذ، والطعام الحلو -على قلّته- تملؤه البركة، وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب أصوات الفن الجميل تصدح في المساء ، وفي الصباح الباكر ينهض الجميع عندما  يسمعون  أذان الصبح يتردد صداه في أنحاء القرية الصغيرة فنهب للصلاة جماعة وندعو الله سبحانه تعالى من القلب أن يستجيب لنا  وتدب الحياة في كل مكان فيذهب الفلاحون الى مزارعهم لحرثها وسقيها حين كانت الأبقار هي الوسيلة المتاحة في تلك الأيام ثم تم إستيراد المكائن "الرستون " لرفع  المياه من الآبار وتم استيراد شتلات البرتقال من الخارج وغرسها في المزارع لأول مرة الى جانب أشجار الليمون الحامض واليوسف أفندي والرمان والجوافة وأنواع  الخضروات الأخرى !!

ولازالت أصوات كبار المذيعين في صوت العرب ترن في أذناي  وأشهرهم الأستاذ أحمد سعيد بصوته المميز المعروف وجلال معوض ومحمد عروق والأناشيد الحماسية مثل : الله أكبر، ووطني الأكبر لمجموعة من كبار الفنانين المصريين من خلال الراديو القديم الذي يتوسط  جدار المجلس كما ينقل خطابات الرئيس عبدالناصر الحماسية على الهواء في المناسبات الوطنية العربية.

 هذه بعض من الصور المتخيلة عن الماضي الذي نَحِنّ إليه اليوم ، فكل ما هو ماضٍ جميل، أصيل، تستدعيه الذاكرة مصحوبا بفيض المشاعر وممزوجا بالحسرة، يملؤه الحنين والشوق. وتُصاغ أشكال الحنين للماضي بصورها المتعددة بحسب خلفية وأيديولوجية كل فرد أو جماعة، فالمُسِنّ يستحضر أيام شبابه متذكرا الصحة، والمهاجر يَحِنّ دوما للحظات الدفء في وطنه بين أحبابه الغائبين، والمثقف يستدعي نضالات المفكرين الراحلين وصليل أقلامهم ومواهبهم الإبداعية وأشعارهم الحماسية، والبعض يقلب  صفحات تاريخ مليء بالبطولات، يقرؤونه ببراءة متوهمة عن ماض ناصع البياض مجيد لم يَشُبه زيف، ولم يَضِع فيه حق ولم تخر فيه قوى الخير، ماضٍ يستلزم العودة إليه لتحقيق العزة، راغبين في فردوس أرضي متحقق فقط في الماضي. وقد تعيش شعوب كاملة على آثار حضارات بائدة، مُعرفّة حاضرها من خلال إنجازات موتى غادروا منذ قرون.

د . علوي عمر بن فريد