ليتني لم أكبر!!

2023-06-30 14:42

 

الحلقة الاولى

جاء العيد على الأمة الإسلامية وهي تعاني حالة حروب وتشريد واضطهاد لا تتوقف حتى في المناسبات الدينية .

 شعوب شردتها الحروب فقدت الغالي والنفيس وتعرض أفرادها لإبادات جماعية تيتم أطفال وترملت نساء وصار الحزن معشعشا في كل بيت والعالم يكتفي بالفرجة والندب والشجب، مساعدات خجولة لا ترقى لهول الكارثة، أوضاع مزرية وأمراض متفشية واستغلال لحاجات المشردين واللاجئين، أحيانا يخيل للمرء أن هناك مقاييس مختلفة يصنف على أساسها البشر فهناك شعوب في الصف الأول ويليها أناس أقل درجات وهلم جرا .

العيد فرحة وخصوصا للأطفال الذين يتوقون للملابس الجديدة والحلويات وخلافه من طقوس الأعياد والمؤسف أن هناك الكثير منهم سيحرم هذه المتعة التي يترقبونها في المواسم كل هذا بسبب الكبار الذين لا يضعون حدا لأطماعهم وشهواتهم في سبيل تحقيق أهدافهم البغيضة على حساب الأبرياء، هذه الأنانية البشرية هي الصخرة الكأداء في سبيل تحقيق الحب والوئام بين أبناء آدم، كل الأديان تحض على المحبة والتسامح والإيثار ونبذ الطائفية والعنصرية وما إلى ذلك من الصفات الحسنة التي أوصي الإنسان بجعلها أساسيات حياته ومع ذلك يحيد عنها حيودا يصل إلى درجة يفقد إنسانيتة ويتحول لشيطان.

كنا في سن الطفولة والبراءة نلعب في فصل الشتاء العابا عديدة منها (الول ، والقاش ، والهجه  ، والنصاع والسباق .) في وادي مربون بالصعيد ، وكنا نشعل النار ونتحلق حولها ونكوي أيادينا بأعواد القصب و الذرة (القرط) بعد أن نضعها في النار حتى تحمر ثم نضعها على سواعدنا بلذعة سريعة حتى يبقى أثر اللسعة ظاهرا على الساعد الغض الصغير لنبرع في الرماية كما تقول الأساطير.. ثم نتحلق حول النار ونمد أيدينا لنستمد الدفء والحرارة ....كنا نتسابق لصيد العصافير بوسائل عديدة منها : المنطب والمحنابه  والطوب الهدال الذي نضعه في أعواد صغيرة على عتوم الماء في الحقول !!

ومن يحضر منا عصفورا يتباهى به أمام الجميع ثم نشويه ونأكله معا رغم حجمه الصغير ..كنا نتقاسم الفرح .. تغني معا ونضحك ونبكي معا...ولم نكن ندري أن الأيام ستحمل لنا الأسى والحزن واستثمر اليمن الخلافات الجنوبية وأخذ يشعل النيران في البلاد بحجة مقاومة الاستعمار الذي أعلن عن موعد رحيله وسالت الدماء الجنوبية على ثراك يا وطني عندما  قام وحوش من أبناء جلدتنا يقتلون الكوادر الوطنية ..ويغتالون البراءة والطفولة...ويدفنون أحلامنا ومن ذلك ما حدث لأحد رفاق الطفولة الذين كنت العب معهم....عندما قتل أبيه الضابط في الأمن في اشتباك مسلح ومعه اثنان من العسكر ...شاهدت جثامينهم مسجاة في وادي يارومه تحت شجرة الأثب الضخمة...وانحبست الدموع في عيوني من هول الصدمة وقفلت راجعا إلى الحي وإذ بالنساء يصرخن بأصوات عالية تشق عنان السماء ويجرين حول البيوت في نوبة بكاء هستيرية .. بعد أن وصل إليهن الخبر وتلبسني حزن عميق و تكورت على جذع شجرة سدر والألم  يعصرني من هول المشهد وإذا بواحد من رفاق طفولتي يقبل علي بعد أن سأل الرجال والنساء ولم يخبره أحد بما حدث واتجه نحوي وتمسك بثيابي يجذبني بكل قوته ويسألني :

لماذا تبكي النساء ؟ وما الذي جرى ...أجبني؟

ويستحلفني أن أخبره ...ترددت

ازداد تمسكا بثيابي ...وهو يهزني ويقول : 

الست صديقي لماذا لا تخبرني؟؟؟؟

وأنا مشفق عليه من هول الصدمة.. وبعد تردد أخبرته بالحدث الجلل وأبلغته بمقتل أبيه في ذلك الاشتباك بكى وبكيت معه ..سقط على الأرض ...وأخذ يرجف كورقة في مهب الريح ويتمرغ في التراب ويتلوى من الألم أسندته بذراعي النحيلتين حتى وقف وقال لي : خذني إلى هناك أريد أن أرى أبي...وطوال الطريق كنت أواسيه  بالقول : لست وحدك يا صديقي من فقد أباه فانظر حولك وسترى أن الوطن كله أصبح كله ينزف بعد أن نهشته الحروب ، وأدمت جوانبه الفتن  وشردت أبناءه ويتمت أطفاله وضيعت مستقبله وأصبح الوطن كله رهينة بيد الطغاة... حين يولد طاغية ومجرم كل يوم ..هكذا ترسم صورة وطني بلوحة سوداء قاتمة على جوانبها حروف مبعثرة مكتوبة بالدم دون عناوين لا يستدل بها على حال أو مكان ولا يعرف لها قرار أو بداية أو نهاية .

خريطة حمراء قانية ملطخة بدماء أبناء وطن واحد يقتلون بعضهم بعضا منذ ستين عاما ..تنتشر قبورهم في كل قرية وتبكي شواهدهم عليهم ولا تحمل أسمائهم ولا يستدل عليهم إلا من واروهم الثرى أما الأغلبية فلم يجد  أهاليهم لهم لا قبور ولا شواهد وقد دفنوا في الصحاري والفلوات وسط الرمال أو ذابت جثمانيهم في الآبار المهجورة ولم يعثر عليهم أحد !!

أكثر من ستين عاما وشعبنا يواجه الموت والدمار كل يوم في معارك وحروب بالوكالة.. معارك خاسرة ضد بعضنا البعض لا غالب ولا مغلوب فيها والخاسر الوحيد هو الوطن  .

والى اللقاء في الحلقة الثانية

 

*- د.علوي عمر بن فريد