*- شبوة برس - أوسان بن سدة
في زمن تُمنح فيه “جوائز” مقابل تزوير التاريخ، خرج علينا أحدهم عارضًا مليون دولار لمن يُثبت أن هناك “دولة سابقة” اسمها الجنوب العربي ولو تعنى وبحث في وثائق سفر أجداده لوجده مكتوبا اعلى مسمى السلطنة التي ينتمي اليها …
إنه عرض سخي، ليس لأنه يعكس رغبة صادقة في اكتشاف الحقيقة، بل لأنه يُجسد مأساة من يبيعون الجغرافيا في مزاد التذاكي السياسي، ويزوّرون الوعي تحت لافتات براقة تُخفي عجزًا أخلاقيًا، وتقلبًا في الولاء، وخدمة لأجندات تقسيم خفي.
في عالم السياسة، اعتدنا أن تُشترى المواقف، لكن أن يُعرض مليون دولار لمن “يثبت” وجود الجنوب العربي والذي كانت حضرموت هي محور نشأته، ومرتكزه، وهويته التاريخية!
فهذه ليست صفقة سياسية، بل نكتة بموازنة مفتوحة، وسيناريو عبثي يُدار على طريقة:
“احذف الذاكرة… واربح الجائزة!”
لسنا أمام جدل أكاديمي، بل أمام مسرحية ،
فالخلط المتعمّد بين الهوية الجغرافية وشكل الحكومات والأنظمة ، ليس جهلًا بريئًا، بل مشروع تضليل ممنهج، يراد منه تفكيك الذاكرة الجنوبية، وتحويل حضرموت لخاصرة رخوة تخترقها مشاريع الهيمنة من صنعاء، أو طهران، أو إسطنبول.
مشروع الجنوب العربي… وذُعر بريطانيا وصراخ الزيدية
من سلطنة المهرة شرقًا حتى مشيخة الحواشب غربًا، والمناطق المستقطعة شكّلت حضرموت ومخاليفها عمود الجنوب العربي الفقري، بحكم الدين والمذهب والتجارة والبنية الاجتماعية، لا بإملاء خارجي ولا بتوقيع مؤقت.
ففي منتصف الأربعينات، انطلقت مبادرة سياسية حضارية حملها مثقفون حضارم وسلاطين وتجار وعلماء أجلاء ووجهاء من مختلف السلطنات.
ليصوغوا مشروعًا نهضويًا باسم الجنوب العربي، كيان مستقل لا يعترف بشرعية المستعمر ولا يُساق خلف الأئمة الزيدية.
أثار المشروع قلق بريطانيا، فحاربته ونفت رجالاته، ثم عادت عام 1959 لتنتج نسخة مشوهة منه: “اتحاد الجنوب العربي”، الذي استُخدم فيه الاسم وغُيّب فيه المضمون.
حضرموت لم تدخل هذا الاتحاد، ليس لأنها غريبة، بل لأنها كانت تفاوض على دولة فيدراليه بارادة وطنيه غير مهُيمن عليها استعماريا، وكادت أن تصل لغايتها بإعادة ريادتها التاريخية للجنوب العربي لولاء وصول غوغاء القومجية للحكم بعد 67 وتغيير اتجاه الهوى لباب اليمن .
الجنوب العربي… الاسم الذي اختارته الجغرافيا قبل السياسة.
منذ أن بدأ تأسيس الدول القومية الحديثة، لم تُبْنَ الأوطان على أسماء السلالات و المناطق في خرائط القرون الماضية.
بريطانيا لم تُسمّ نفسها"ساكسونيا”، وباكستان لم تُطلق على نفسها “دولة السند” وموريتانيا لم تُصرّ على اسم “شنقيط” رغم عمقها التاريخي وقرطاج وجدت قبل تونس وبابل سبقت العراق حاضرة وذكرا وهلم جرا.
الدول تختار أسماءً تعبّر عن هوية الإنسان، والموقع، والدلالة المعاصرة تراكم وطني لا حنين مؤرشف.
وهكذا، حين يُختار اسم “الجنوب العربي”، فلا هو خيال سياسي ولا شعار مفارق، بل لان فيها نشئت اول حضارات العرب وموطنهم ويجمع جغرافيا الامتداد من بحر العرب إلى عروق الربع الخالي، من باب المندب إلى المهره، مرورًا بحضرموت،قلب الكيان ومتنفسه التجاري والسياسي.
وفي كل صراعات الجنوب مع الزيدية، لم تكن هذه الجغرافيا “هامشًا” يمكن التنازل عنه، بل كانت الخط الأحمر الذي تكررت عنده الحروب، وتوقفت عنده خرائط التوسع.
فالهوية لا تُقاس بحدود إدارات مؤقتة، بل بما لا يتغير حين يتغير كل شيء: البحر الذي يحمل اسمك، الأرض التي تتنفسك، والناس الذين يعرفون أنفسهم حتى وإن أنكرهم سماسرة الخرائط.
حضرموت التي حاربت بالسيف والمذهب… فهل تُختزل اليوم في هامش إداري وتتقوقع؟
لم تكن حضرموت يومًا “جزءًا يتبع”، بل كانت الركن الذي حمى الجنوب العربي من الذوبان في أطماع الأئمة الزيدية عبر قرون من محاولات التمدد.
أجدادنا لم يتركوا البحر، بل انتزعوا سواحله من فم الزيدية، لأنهم أدركوا مبكرًا أن خنق المكلا والشحر والموانئ الجنوبية هو خنق لمستقبل حضرموت الاقتصادي وأساطيلها البحرية، وقتلٌ لهويتها الاجتماعية وتفرد مدرستها الدينية الوسطية.
لذلك، لم تكن مقاومة حضرموت بالسيف وحده، بل بالهوية.
فُقّه الإنسان الحضرمي في مخاليفه النائية على مذهب الاعتدال، وزُرعت فيه ذاكرةٌ جماعيةٌ تُدرك أن البحر ليس طرفًا بل شريان نجاة من مشروع ديني سياسي أراد أن يحوّل الجنوب إلى ملحقٍ لمركزه في صنعاء ، والموانئ لضرائب صعدة.
إن ما يُراد لحضرموت اليوم هو عكس ما دافعت عنه عبر قرون:
تحويلها من “مركز توازن وريادة ” إلى “هامش صالح للضبط”، ومن ضامن جغرافي لكيان الجنوب العربي ومجالها الحيوي إلى محافظة قابلة لإعادة التدوير السياسي.
لكن التاريخ لا يُغفر للذين يبيعون الذاكرة تحت مسمّى “الحياد”ولا يرحم من يجهل أن البحر الذي يحمل اسمنا.. لاينسى أبناءه.