في ظل الجدل الدائر حول المناطقية والانانية الدائر حاليا حول بعض الامور ، تطفو على السطح تساؤلات فلسفية عميقة، تتعلق بطبيعة الإنسان وصلته بالمجتمع، وأهمية الانتماء في تشكيل هويته ومن بين هذه التساؤلات، تبرز العلاقة المعقدة بين الأنانية والمناطقية، وكيف يمكننا أن ننظر إليهما من زاوية إيجابية، تضيء لنا مسارات بناء مجتمع أكثر تماسكاً وعدالة.
فالأنانية والمناطقية، كلمتان او صفتان غالبًا ما تُقرنان بالتعصب والانغلاق، لكنهما، في حقيقتهما، وجهان لعملة واحدة. فالأنانية، بوصفها غريزة متأصلة في الإنسان، تدفعه نحو الحفاظ على ذاته وتحقيق مصالحه الشخصية. أما المناطقية، فهي امتداد لهذه الغريزة على مستوى الجماعة، حيث تتسع دائرة "الأنا" لتشمل العائلة، ثم القبيلة، فالمنطقة الجغرافية، وصولاً إلى الوطن الأكبر.
هذه "الأنا" المتوسعة هي ما يميز الإنسان المناطقي، أو الأناني بالمعنى الإيجابي للكلمة. فهو، بدافع من غريزة الحماية، سينحاز أولاً إلى أولاده ضد أبناء أخيه، ثم يقف معهم ضد أبناء عمه، ثم مع أبناء عمومته ضد الغريب. وهكذا، تتسع الدائرة شيئاً فشيئاً، لتشمل القبيلة، ثم المنطقة، ثم الوطن. وهذه السلسلة من الانتماءات، وإن بدت للبعض ضيقة الأفق، إلا أنها تعبر عن طبيعة الإنسان التي جُبلت على العطاء والانتماء، وعلى حماية من ينتسب إليهم.
هذه الصفات، في جوهرها، هي من تجعل الفرد جزءاً من الكل، وتحفزه على التضحية من أجل الجماعة. فالأنانية، التي تبدأ بحب الذات، هي الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع سليم. فمن يكره نفسه، لن يتمكن من حب الآخرين، ولن يكون قادراً على التضحية من أجلهم. أما من يحب نفسه، فإنه سيسعى بالضرورة إلى حماية مصالحه، وهذه الحماية تمتد لتشمل أسرته، وقبيلته، ومنطقته، ووطنه.
هذه "المناطقية او الانانية" -بالمعنى الإيجابي- تجعل الإنسان مخلصاً لمن ينتسب إليهم، وتمنعه من التفريط فيهم. فهو لا يمكن أن يفرط في أولاده لإرضاء أولاد أخيه، ولا يمكن أن يقف ضد قبيلته -حتى وإن كانت على خطأ- لينال محبة قبيلة أخرى. ولا يمكن أن يستعدي شعبه ووطنه، أو يكون عميلاً لدولة أخرى ضدهما، لأن هذه الصفات تتناقض مع غريزة الحماية والانتماء التي تحركه.
فحب الوطن، يبدأ من حب الذات. ومن يكره نفسه، لن يتمكن من حب الآخرين، ولن يتمكن من حب وطنه. فحب الأسرة، ثم القبيلة، ثم المنطقة، ثم الشعب، هو تسلسل طبيعي، يتماشى مع التسلسل الجغرافي. فالأنانية والمناطقية ليستا قيداً على التقدم، بل هما وقود التلاحم الاجتماعي، الذي يضمن بقاء الجماعة وتماسكها في وجه التحديات.
أما "غير المناطقي او الاناني"، الذي لا يحب نفسه، فيمكن أن يقدم مصلحة أولاد الآخرين على حساب أولاده، ويمكن أن يضحي بوطنه من أجل وطن آخر. فهذا الشخص، وإن بدا متجرداً، إلا أنه يفتقر إلى تلك الغريزة التي تجعل الإنسان جزءاً من الكل، وتجعله قادراً على التضحية من أجل الجماعة.
من هنا، نستنتج أن المناطقية والوطنية صفتان متلازمتان. فالشخص الذي يعتز بمنطقته، هو بالضرورة شخص يعتز بوطنه. ولا يمكن أن ترى مناطقياً حقيقياً يفرط في وطنه، أو يخونه، إلا إذا كان سياسياً مدعياً للمناطقية أو الوطنية، أي أنه يستغل هذه المشاعر لتحقيق مآرب شخصية أو سياسية ضيقة.
ومن هنا يمكن القول، بان قيمة هذه الفلسفة تكمن في إعلاء قيمة الانتماء، وفهم العلاقة المعقدة بين الفرد والجماعة. فالأنانية، في حد ذاتها، ليست بالضرورة شيئاً سيئاً، بل هي غريزة أساسية لبقاء الإنسان. والمناطقية، هي تعبير عن هذه الغريزة على مستوى أوسع، وهي خطوة ضرورية نحو بناء مجتمع متماسك وقوي. فحب الوطن، يبدأ من حب الذات، ويمتد ليشمل كل من نرتبط بهم، وكل ما ننتمي إليه.