*- شبوة برس - رائد عفيف
حين يُكتب التاريخ بدماء الشراكة المنقوضة، لا بد أن تُروى الحقيقة كاملة.
منذ سبعينات القرن الماضي، توالت الاتفاقيات بين الشمال والجنوب، تحمل وعودًا بالوحدة والتكامل، لكنها كانت تُخرق في كل مرة، وتُستخدم كأدوات مرحلية تُرمى بعد انتهاء دورها. وعندما أُعلنت الوحدة رسميًا عام 1990م، ظن الكثيرون أن صفحة جديدة قد فُتحت، لكن ما حدث لاحقًا كشف أن النوايا لم تكن صادقة منذ البداية.
وفي 18 يناير 1994م، وبعد تصاعد التوترات، تم توقيع وثيقة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمّان، محاولة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من الثقة. لكنها لم تُنفذ على الأرض، بل قوبلت بإعلان الحرب في 27 أبريل من نفس العام من قبل شمال اليمن على الجنوب، في مشهد دموي أنهى كل ما قيل عن الشراكة، وأعاد الجنوب إلى مربع الاحتلال بالقوة الجبرية، وبمجنزرات الدبابات.
لم يتوقف الأمر عند الحرب، بل تم تسريح أكثر من 400 ألف جنوبي من وظائفهم، بينهم قيادات عسكرية ومدنية وإدارية، في عملية إقصاء ممنهجة استهدفت تفريغ الجنوب من كوادره، وطمس هويته السياسية، والمؤسسية، والتاريخية. لم يكن ذلك مجرد إجراء إداري، بل كان محاولة لاقتلاع الجنوب من جذوره، وإلغاء دوره في صناعة القرار الوطني.
واليوم، يعيدون نفس المسرحية القديمة، ولكن بأزياء جديدة. وقعوا في الرياض على بنود شراكة مع الجنوبيين، ثم رمَوها كما رمَوا كل ما سبقها. لا شيء تغيّر سوى الشعارات، أما العقلية فهي ذاتها: عقلية الإنكار، والسيطرة، ورفض الاعتراف بالجنوب كشريك متكافئ.
وها هم يصرخون بهستيريا، لأن المجلس الانتقالي الجنوبي قرر أن يُخرج القرارات التي ظلت مجمدة عمدًا، لا بسبب العجز، بل بسبب تجاهل متعمد لحقوق الجنوب. قرارات كانت حبيسة أدراج العليمي، واليوم تُنفذ على الأرض بإرادة جنوبية واضحة.
كفاية إلى هنا...
لقد طفح الكيل، والحقائق لم تعد قابلة للتجميل:
- مأرب لم تورد مواردها إلى البنك المركزي في عدن.
- العليمي عرقل قرارات رئيس الوزراء بتحويل رواتب المسؤولين والبعثات الدبلوماسية إلى الريال اليمني، وأوقف كشف الإعاشة.
- رفض تنفيذ التعيينات المتفق عليها في اتفاق الرياض.
- لم تخرج المنطقة العسكرية الأولى من وادي وصحراء حضرموت كما نص الاتفاق.
- تأخرت رواتب العسكريين والمدنيين الجنوبيين بشكل ممنهج.
- تم غرس الفتنة بين الجنوبيين، ودُعمت الجماعات الإرهابية كالقاعدة وداعش في أبين، مع تمويل نشاطها في الجنوب.
- وما خفي كان أعظم...
فلماذا كل هذا الصراخ؟ لأنهم اعتادوا أن يكون الجنوب تابعًا، لا صاحب قرار. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد: الجنوب يفرض إرادته، ويُعيد صياغة العلاقة من موقع القوة والوعي، لا من موقع التبعية والانكسار.
التاريخ لا يُمحى، والذاكرة الجنوبية لا تُخدع. ومن يكرر أخطاء الماضي، عليه أن يتحمّل نتائج الحاضر.
والقادم أجمل... الجنوب قرر أن يكون سيد قراره، لا تابعًا لأحد.