*- شبوة برس - نورا المطيري
من أبوظبي إلى نيويورك، ومن واشنطن إلى القاهرة، ومن غزة إلى عدن، تتشكل اليوم ملامح شرق أوسط جديد، أكثر اتزانًا وأكثر وضوحًا في أولوياته.
وتبدو الإمارات في قلب هذه اللحظة التاريخية كفاعل محوري يقود المسار الدبلوماسي نحو تسوية سياسية طويلة الأمد تُنهي واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا في المنطقة، ومن وجهة نظري، لم يكن هذا الدور صدفة ولا انفعالًا ظرفيًا، بل امتدادًا لنهجٍ إماراتي عميقٍ يؤمن بأن السلام يُصنع بالجهد، وبأن الحوار، حين يُدار بحكمة وثبات، يغيّر مسار التاريخ.
لقد أظهرت الإمارات خلال الأسابيع الماضية قدرة استثنائية على استخدام كل قواها السياسية والدبلوماسية لدعم خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط، وهي الخطة التي أعادت الأمل بإمكانية الوصول إلى تسوية حقيقية في غزة وفتح مسار سياسي جديد يعيد للقضية الفلسطينية زخمها.
وقد تابعت اللقاء الذي جمع الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك، وكان اللقاء شجاعا وجريئا ومحوريًا بكل المقاييس؛ فالكلمات القليلة التي خرجت من هذا الاجتماع حملت رسائل عميقة على رأسها دعم الخطة الأمريكية، وتأكيد أن السلام هو فعلا مسؤولية تاريخية.
دولة الإمارات لم تكتفِ بالدعم السياسي، بل قادت تحركات مكوكية لإقناع الأطراف الإقليمية والدولية بضرورة التعامل مع خطة ترامب بجدية، إدراكًا منها أن اللحظة لا تحتمل التردد، وأن المنطقة أمام فرصة نادرة لوقف دوامة العنف وبناء سلامٍ حقيقيٍّ يستند إلى رؤية اقتصادية وإنسانية وأمنية متكاملة. وهذا الموقف جاء بعد عقود من السياسة الواقعية التي أرساها مؤسس الدولة المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتعمقت في رؤية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، الذي جعل من التوازن والحكمة والجرأة ركائز للقرار السياسي الإماراتي.
وعندما نتتبع تفاصيل التحركات الإماراتية، نرى بوضوح أن السياسة تحوّلت إلى أداءٍ عمليٍّ شامل، ففي الأمم المتحدة كان الصوت الإماراتي حاضرًا بحزمٍ ورؤية، وفي باريس مثلت ريم بنت إبراهيم الهاشمي وزيرة دولة لشؤون التعاون الدولي، دولة الإمارات في الاجتماع الرفيع المستوى الذي ترأسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتؤكد أن الإمارات تتحدث عن السلام كخطة تنفيذية قائمة على الأرقام والمشاريع والمبادرات.
فعرضت الإمارات أمام المجتمع الدولي نموذجها المتكامل في إدارة الأزمات، بدءًا من المساعدات الإنسانية البالغة 1.8 مليار دولار، مرورًا بالمستشفيات ومحطات تحلية المياه التي تضخ مليوني غالون يوميًا، ووصولًا إلى تشغيل المخابز المجتمعية والملاجئ ومراكز العلاج التي أصبحت متنفسًا لآلاف الأسر في غزة.
تجلت الدبلوماسية الإماراتية في أوضح صورها عندما حث الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان الجانب الإسرائيلي على التعامل الجاد مع خطة ترامب، مؤكدًا أن نجاحها يشكل ركيزة لبناء مرحلة جديدة من الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن وقف الحرب الفوري سيمنح المنطقة طاقة إيجابية جديدة قادرة على تحويل الصراع إلى تعاون. وقد أثبتت الأحداث أن هذا الموقف حظي بتقدير دولي واسع، إذ أثنى ترامب نفسه على الدور الحاسم للشيخ محمد بن زايد آل نهيان في تسهيل التفاهمات التي أدت إلى وقف إطلاق النار، واصفًا ما جرى بأنه “إنجاز للقيادة الإماراتية التي وضعت السلام فوق كل اعتبار”.
من زاوية تحليلية، أرى أن ما حدث يشكل منعطفًا استراتيجيًا في مفهوم الدبلوماسية العربية الحديثة. فالإمارات أعادت تعريف معنى القوة، وجعلت من الحوار أداة تأثير أقوى من السلاح. وفي زمن تتغير فيه التحالفات وتتبدل موازين القوى، اختارت الإمارات أن تكون مركز توازن يربط الشرق بالغرب والعرب بالعالم، ويقدم صيغة جديدة من الواقعية السياسية التي تنحاز للسلام من موقع القوة التي تعرف كيف ومتى تستخدم كل أدواتها بذكاء دبلوماسي وسياسي ليس له مثيل، فجاءت مشاركة الإمارات الفاعلة في صياغة مراحل خطة ترامب باعتبارها مشروعًا دوليًا يفتح المجال أمام حلول عملية تحفظ الأمن الإقليمي وتمنح الفلسطينيين أفقًا سياسيًا واضحًا.
وفي ضوء كل هذه التطورات، يمكن القول إن الإمارات قادت — بوعي ومسؤولية — عملية إحياء سياسية للمنطقة بأكملها. لقد سخّرت دبلوماسيتها النشطة وعلاقاتها المتوازنة مع واشنطن وتل أبيب والعواصم العربية الكبرى لتصبح صلة الوصل التي تجمع المتناقضات وتعيد رسم الجغرافيا السياسية على أسس جديدة من الواقعية والاحترام المتبادل.
في تقديري، فإن هذا الدور الإماراتي في دعم وتنفيذ خطة ترامب هو نجاح تاريخي، وبداية فصل جديد من السياسة العربية الحديثة التي تعتمد على التأثير الهادئ والإنجاز الملموس، فالإمارات اليوم تصوغ السلام بوصفه خيارًا أخلاقيًا وكذلك باعتباره استراتيجية تنموية واقتصادية وإنسانية. ومع كل خطوة تُبنى فوق أخرى، تتأكد الحقيقة الكبرى: أن صوت الإمارات أصبح هو الإيقاع الذي يُضبط عليه ميزان الشرق الأوسط الجديد.
وكما أرى، وفي امتداد هذا الحضور الفاعل، تمتد الأيادي البيضاء للإمارات لتنسج خيوط سلامٍ جديد في اليمن بشطريه الجنوبي والشمالي، فالمشروع الإماراتي يرمي إلى تحقيق استقرارٍ شاملٍ يعيد لهذا الجزء من الوطن العربي دوره ومكانته في المعادلة الإقليمية. وكلنا نعرف أن الإمارات تؤمن منذ البداية أن السلام يحتاج التنمية، ولذلك سارعت منذ سنوات إلى تنفيذ برامج البنية التحتية في الجنوب العربي، ودعم المؤسسات المدنية، وتمكين الشباب والمرأة، وفتح الأبواب أمام الاقتصاد والاستثمار، بما يجعل الجنوب العربي نموذجًا في التعافي بعد الأزمات.
واليوم، ومع احتفالات الجنوب بثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول المجيدة، التي أطلقت شرارة الحرية عام 1963 من جبال ردفان، تبدو اللحظة أكثر عمقًا ودلالة. فالثورة التي حررت الجنوب من الاستعمار البريطاني تعود اليوم في ثوبٍ جديدٍ من الوعي والسيادة، ويقودها مشروعٌ سياسي وطني جامعٌ تمثله قيادة الرئيس القائد عيدروس الزبيدي والمجلس الانتقالي الجنوبي.
وفي تقديري، فإن توحد الشعب الجنوبي خلف هذه القيادة يشكل ركيزة أساسية لمرحلة مقبلة ستشهد تحولات جذرية في المشهد الإقليمي، حيث تتكامل الجهود الداخلية والخارجية لتهيئة الأرض لعودة دولة الجنوب العربي بثوبها المعاصر، ضمن رؤية سلامٍ عربيٍّ شاملٍ تقود الإمارات ملامحه الأولى من غزة إلى عدن ومن المحيط إلى الخليج.