المجلس الانتقالي وتكرار الفرص الضائعة

2025-05-06 19:11

 

منذ نحو ثلاثة أيام كنت قد توقفت عند استقالة رئيس الحكومة د. أحمد عوض بن مبارك وأشرت إلى الفرصة التاريخية أمام المجلس الانتقالي الجنوبي الممثل للأرض والشعب الذين تهيمن عليهما شرعية الشراكة بينه وبين الأشقاء الشماليين الهاربين من أرضهم وحاضنتهم الاجتماعية الواقعة تحت سلطة وكلاء إيران في اليمن.

وأعود للتذكير بمبررات الفرصة التي أتحدث عنها واقصد هنا إنه (أي المجلس الانتقالي) الممثل الأبرز (وليس الوحيد) لشعب الجنوب، لديه ومعه شركاؤه الجنوبيون أهم نقاط القوة التي تمنحهم الحق القانوني والمنطقي بأن يتفردوا بحكم الجنوب واقصد هنا إنهم أصحاب الأرض والشعب والثروة والنصر الوحيد الذي تجرعت مرارته  الجماعة الانقلابية، وكيلة المشروع الفارسي في اليمن، هذه الجماعة التي طردت كل القوى السياسية الشمالية بعد هيمنتها على العاصمة اليمنية صنعاء وتصفية شريكها السابق الرئيس علي عبد الله صالح وهي (أي القوى السياسية الشمالية) اليوم من يتحكم في الجنوب بدلاً من تحرير بلاد أعضائها والقائمين عليها.

إن هذه النقاط الأربع (وأعيدها هنا الأرض والشعب والثروة والانتصار العسكري) ومعها القوة المسلحة والأمنية الجنوبية تمنح الجنوبيين كل الحق أن يشكلوا حكومة الشرعية لأنهم الشرعيون الوحيدون الذين يحق لهم حكم الجنوب قبل وبعد الحل النهائي للقضية الجنوبية، ولست ادري ما الذي يمنع المجلس الانتقالي من تبني هذا الموقف والتمسك به وتسخير كل الفرصة التي تتكرر وتمضي مرةً بعد مرة دونما استثمارها ولو من أجل إنقاذ المواطن الجنوبي الواقف على حافة الإملاق والمجاعة والهلاك.؟ أهو التواضع؟ أم الزهد في السلطة؟ أم عدم الجاهزية لتحمل مسؤولية إدارة البلاد التي نسعى من أجل استعادة دولتها؟ أم اختلال التوازن بين المجلس وبين شركائه أعداء القضية الجنوبية؟ أم الضغوط الخارجية؟ أم ماذا؟

بعد اتفاق الرياض استبشر الجميع بأن حلاً قريباً سيتحقق لأزمة الخدمات وغياب الماء والكهرباء وتوقف دفع المرتبات وازمة المجاعة وحل مشكلة انهيار العملة، وهي أمور وردت بجانب قضايا أخرى في اتفاق الرياض، وقد تغاضى الجنوبيون عن خدعة المناصفة التي صارت مناصفة داخل كل حزب بين حصته في الشمال وحصته في الجنوب، وطلع الانتقالي الوحيد الذي ليس له حصة في الشمال كما هو معروف فصارت المناصفة (مرابعة إن جاز التعبير) أي ربع للانتقالي وثلاثة أرباع لأحزاب الشمال، لكن حتى تلك الخدمات الغائبة التي نص اتفاق الرياض على معالجتها لم تزدد إلا تدهوراً وغياباً وتحولت حكومة معين عبد الملك من منقذٍ لضحايا حروب الخدمات وسياسات التجويع ومحاولات التركيع إلى هراوة كبرى تجلد الجائعين وتعذب المحرومين وتلهب ظهور ضحاياها بكرباج الحرمان والتعذيب، وتكررت نفس الآمال والتطلعات بعد مشاروات الرياض ومخرجاتها التي لم تسفر سوى عن نقل السلطة من الرئيس الشرعي إلى جماعة لا علاقة لها بالشرعية ولا بالمشروعية، وتكررت معها كذلك الخيبات والإخفاقات والانهيارات المتواصلة وكلما تحقق هو ازدياد عدد المنتفعين من الفساد.

وبعد استقالة معين عبد الملك توقع الناس أن يقدم المجلس الانتقالي صيغة معمقة ودقيقة لحل الازمات والاختناقات والعذابات التي يعاني منها الجنوبيون من خلال برنامج عملي لمحاربة الفساد وتحسين مستوى تحصيل واستخدام الموارد ورفع المعاناة عن أبناء الجنوب، ومن خلال إعادة النظر في تركيبة الحكومة واستبعاد الفاسدين والتحقيق معهم وإيقافهم عن أعمالهم وإحالتهم إلى القضاء، واستبدالهم  بعناصر نزيهة وذات خبرة ومهارة وتخصص وسمعة حسنة، لكن الانتقالي اكتفى بالربع غير الفاعل وغير المؤثر في الحكومة الفاشلة وازدادت الأمور تدهوراً وقابليةً للانهيار وكل ما حققه المجلس الانتقالي هو تقاسم السخط الشعبي والغضب الجماهيري مع الأشقاء الشرعيين الوافدين من خارج الجنوب، بل إن هؤلاء الأشقاء وأعلامهم لم يتورعوا عن تحميل المجلس الانتقالي كامل المسؤولية عما يعانيه الجنوبيون من آلام وعذابات، بتهمة ظل بعض قادة الانتقالي يتفاخرون بها وهي أنهم مسيطرون على الأرض بحجة التفويض الشعبي.

وهكذا أضاع الانتقالي فرصة أخرى لإحداث تغيير جذري ونوعي في تركيبة الحكومة وتحسين أداء أجهزتها.

وقبل أيام ومع استقالة رئيس الحكومة د. بن مبارك توقع كثيرون ومنهم كاتب هذه السطور أن يغتنم المجلس الانتقالي الفرصة لفرض نهج جديد واستراتيجية جديدة وأسماء جديدة في تركيبة الحكومة، بما يُمَكِّن من أحداث تحول نوعي باتجاه رفع معانات الجنوبيين من ناحية وتحسين أداء أجهزة السلطة والانتقال الجاد باتجاه إعادة الإعمار ووقف سياسات التسول والاستجداء وتحقيق استقرار معيشي على طريق حل القضية الجنوبية المعلقة بتحرير صنعاء (الحلم الجميل الذي لن يتحقق قبل يوم القيامة).

 يتحجج الكثيرون بأن المجلس الانتقالي ومثله الشرعيين الشماليين يتعرضون لضغط من قبل الأشقاء في دولتي التحالف العربي، ونحن نتفهم موضوع الشراكة مع الأشقاء، لكننا نتفهم أيضاً أن الأشقاء في التحالف لن يرضيهم الحالة البائسة التي يعيشها أبناء عدن وكل محافظات الجنوب من فقر ودمار وخراب وغياب الخدمات وبقاء آثار الحرب، وانعدام السيولة المالية وتنامي الفساد وعجز أجهزة السلطة عن القيام بأبسط وظائفها إلى درجة أصبح معها تسليم مرتبات الموظفين خبراً عاجلاً ينافس المعجزات نادرة الحصول مثل الهبوط على سطح المريخ أو اكتشاف حياة جديدة على إحدى مجرات الكون.

نحن نفهم الشراكة بأنها ليست تبعية نهائية من قبل طرف لطرفٍ آخر، وأنها مثل اسمها تشارك في العطاء وفي الحصاد، وليس فيها من يعطي والآخر يتلقى ولا من يملي والآخر ينفذ الإملاء ولا فيها تابع ومتبوع أو آمر ومأمور ونثق أن الأشقاء يشاطروننا نفس الفهم، ولا نتوقع أنهم يتصورون العكس.

وبالتالي فإن مجلسنا الانتقالي يستطيع ومن منطلق الشراكة الندية ان يقنع الشركاء في التحالف العربي والشركاء الشماليين بأن معانات الجنوبيين وعذاباتهم وجراحهم لن يعالجها احدٌ مثلما ينبغي أن يعالجوها بأنفسهم ولن يدير حياتهم أحدٌ مثلما يمكن أن يديروها بأنفسهم

كما إن المجلس الانتقالي يستطيع (إن هو أراد) أقناع الأشقاء في التحالف وفي الشرعية الشمالية بعدم جدوى الشراكة التي لا ينال من ورائها إلا لعنات السخط وشتائم الغضب من قبل الجائعين والمرضى والمعدمين المهددين بالموت، وبالتالي يصبح من حقه إما أن يتولى إدارة الجنوب، بمشاركة معقولة من الأشقاء الشماليين في ما يخص الحرب أو السلم مع الحوثيين، وإما ترك جماعة 1994م يديبرون الجنوب لوحدهم كما ظلوا حتى العام 2015م، ويتحملون مسؤولين الغضب الشعبي وثورة الجياع المتوقع اندلاعها في كل لحظة.

 "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".