تتوالى فصول المأساة العربية، وتتعدد أشكال النكبات، ومع كل أزمة جديدة، يزداد يقيننا بأن الجرح الغائر في جسد أمتنا ليس خارجيًّا فحسب، بل هو نزيف داخلي لا يتوقف، مصدره الخيانة والتآمر، والمستهدف دائمًا هو ذلك القائد النادر الذي يجرؤ على أن يكون مخلصاً لشعبه ووطنه. إنها الحقيقة المرة التي تطل برأسها كلما حاولنا أن نفهم سر هذا الانحدار الذي وصلنا إليه، والذي أودى بنا من قمة الطموح إلى حضيض التبعية والضياع.
لعل أبرز شاهد على هذه المأساة هو ذلك الفراغ المهول الذي تركه رحيل قامات بحجم الزعيمين الخالدين، جمال عبد الناصر وهواري بومدين. حيث لم تكن وفاتهما مجرد حدث عابر في تاريخ أمتنا، بل كانت نقطة تحول مفصلية، ونذير شؤم ألقى بظلاله الكثيفة على مستقبل المنطقة بأسرها. فقد مثّل كلاهما رمزاً للكرامة الوطنية، والتحرر من ربقة التبعية، وبناء دول قوية ذات سيادة، تسعى لرفعة شعوبها وتحقيق تطلعاتها. فكانا صوت الأمة وضميرها، يرفضان الخضوع ويسعيان للاكتفاء الذاتي والنهضة الشاملة. ومع ذلك، وبشكل غامض ومتشابه في ظروفه وأسبابه التي لم تُكشف عنها الأستار بالكامل حتى اليوم، رحل الاثنان، لتغرق الأمة من بعدهما في دوامة من التيه والاضطراب، وكأن القدر قد حكم عليها بأن لا ترى خيرًا ولا تعتنق أملا بعد أفول نجميهما. هذه النهاية المأساوية ليست مجرد صدفة، بل هي تجسيد صارخ لمشكلة أعمق وأكثر تعقيداً تضرب في صميم البنية المجتمعية والسياسية في عالمنا العربي.
إن المشكلة العويصة التي دمرت شعوبنا وأوطاننا، وأوصلتها إلى هذا الدرك من الضعف والتبعية، تكمن في الاستعداد المقيت للخيانة الذي يصيب بعض أبناء جلدتنا، والذي يشكل التربة الخصبة التي يزرع فيها أعداء الأمة بذور مؤامراتهم. فالأعداء الخارجيون، الذين لا يدخرون وسعاً في إضعاف الأمة وتقسيمها ونهب ثرواتها، يجدون في صفوفنا من هو على أتم الاستعداد للتآمر والتخاذل والخيانة والغدر دون تردد أو نقاش. إنهم يجدون في هذه الشعوب الحاسد: الذي لا يطيق رؤية نجاح زعيم مخلص، فتأكله نار الغيرة حتى يصبح أداة طيعة في يد من يغذّي حسده والحاقد الذي يحمل ضغائن شخصية أو فئوية، فيستغلها الأعداء لتوجيه سهام حقده نحو من يمثل أمل الأمة والطامع في المال الذي يبيع ضميره ووطنه وكرامة شعبه بثمن بخس، فيجنده الأعداء ليصبح خنجراً مسموماً في خاصرة الأمة والخبيث الذي يتصف بالمكر والدهاء، فيستثمره الأعداء في حبك المؤامرات وتدبير المكائد والطامع في السلطة دون أهلية وهو الأخطر، فمن لم يكن يحلم بالوصول إلى سدة الحكم، يغويه الأعداء بكرسي الزعامة، فيستقطبونه لتنفيذ أجنداتهم المدمرة مقابل الوصول إلى السلطة. وهذا الصنف من الخونة يعرف تماماً أنه لا يمتلك أدنى مقومات الحكم، وأنه جاهل بأبجدياته، وغير صالح لقيادة أمة، لكنه يتوق إلى السلطة بأي ثمن، ولا يهمه إن فشل وتسبب في تجويع شعبه وتشريده، ولا يبالي بأن يكون تابعاً ذليلاً للأجندات الخارجية التي تقف من خلفه وتستخدمه كدمية تحركها كيفما شاءت.
ولأن هذه الآفة قد استشرت في جسد الأمة، فقد أضحى غالبية الحكام العرب اليوم بيد الخارج، ولاؤهم الأول والأخير للأجندات الأجنبية، وليس لشعوبهم وأوطانهم وهذه الحقيقة المرة ما كانت لتصبح واقعاً لو لم تكن الخيانة من الداخل، ومن المقربين تحديدًا، ولما استطاع الأعداء إليهم سبيلاً. إن حصون الأوطان لا تُفتح إلا من الداخل، وأبواب الخيانة هي التي مكنت الغريب من الدخول والتحكم بمصير الأمة.
إنها مشكلتنا العويصة التي دمرت شعوبنا وأوطاننا، تلك التي تكمن في الاستعداد المريع للخونة لقتل الزعماء العرب الناجحين والمخلصين والحريصين على مصالح شعوبهم، فقط كي يصلوا هم إلى السلطة. وهم يعلمون يقيناً أنهم لا يجيدون الحكم، وأنهم فاشلون حتماً، وأنهم سيتسببون في هلاك شعوبهم وتجويعها، لكن كل ذلك يهون أمام إشباع نزواتهم الدنيئة: إما مقابل الحصول على الفتات من المال، أو لإطفاء نار الحسد والغيرة التي تشتعل في قلوبهم تجاه الزعماء الناجحين، أو لتحقيق طموح مريض في السلطة لا يستند إلى أي كفاءة أو أهلية.
وهنا يبرز التباين الصارخ مع الأمم الأخرى، ففي الغرب، على سبيل المثال لا الحصر، من النادر جدًّا أن تجد مواطنًا غربيًّا يمتلك هذا الاستعداد للتآمر على رئيس بلاده، مهما أغريته، وحتى وإن كان الرئيس معتوهًا والمواطن معتوهًا، فإن الولاء الوطني يغلب على كل إغراء. هذا لا يعني أن الغرب خالٍ من المشاكل أو المؤامرات، ولكن طبيعة الخيانة الداخلية بهذا الشكل المدمر والمستمر، وبتلك السهولة والقبول، تبدو ظاهرة عربية بامتياز، وتشكل العقبة الكبرى أمام نهضتنا وتقدمنا.
إنها دعوة صادقة لأن نستفيق من غفلتنا، وأن ندرك أن الخطر الأكبر لا يكمن في قوة الأعداء، بل في ضعفنا الداخلي، وفي تلك النفوس المريضة التي تبيع الأمة بأكملها من أجل مكاسب شخصية حقيرة. إن لم نقتلع جذور هذه الخيانة من نفوسنا ومجتمعاتنا، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من التبعية والضعف، وسيبقى شبح عبد الناصر وبومدين يطاردنا، شاهدًا على أمجاد ضاعت وخيرات تبددت، ووعود أمة لم تتحقق بفعل خناجر أبنائها.