حضرموت ليست هامشًا جغرافيًا في كتاب جنوب شبه جزيرة العرب، وليست محافظة تُستدعى في خطب المناسبات للتغني بجمالها أو استحضار مهاجرها..
حضرموت تاريخ يمشي على قدمين، وذاكرة صنعت المجد في الموانئ والأسواق والمهاجر، من إندونيسيا وماليزيا إلى زنجبار وسواحل القرن الأفريقي، لم يكن الحضرمي يومًا تابعًا أو صدفة في التاريخ، بل كان مؤسسًا للسياسة وللتجارة، وبانيًا للمجتمعات، وحاملًا لقيم الأمانة والحكمة والاعتدال حيثما حلّ.
لكن وسط هذا الإرث العريق، برزت في السنوات الأخيرة فئة مأجورة، مدفوعة من قوى خارجية (مأزومة)، حاولت أن تصنع ما تسميه "المظلومية الحضرمية"، لا لإنصاف حضرموت، بل لتقسيمها ولتقزيمها، بدأت ببناء خط عدائي مع محيطها الجنوبي، ثم انتقلت لضرب نسيجها الحضرمي ذاته، خطاب هذه الفئة ليس سوى عنصرية أحادية تستقوي بالخارج، سياسيًا وقبليًا ومذهبيًا، حتى تحوّلت إلى بؤرة عصبوية عارية من أي مشروع سياسي حقيقي.
مشكلة هذه الفئة أنها تنظر إلى حضرموت كأنها آبار نفطية يمكن إخضاعها بالعسكرة القبلية، متناسية أن وقائع السياسة أكبر من شهوة القوة، وأن العالم في القرن الحادي والعشرين لن يقبل حكمًا قبليًا أو مذهبيًا يُفرض بالسلاح، حتى لو حظي بدعم خارجي، في زمن الملفات المشتعلة من الخليج إلى المتوسط.
يظن هؤلاء أن المناكفات تكتيك، بينما هي انتحار سياسي يجرّهم إلى العزلة، غياب الوعي السياسي، والسير الأعمى وراء العصبوية، أوقعهم في مأزق تاريخي، ما لم تعرفه حضرموت عبر القرون، لن تسمح به اليوم: فهي التي كانت المؤثر الحاسم في استقلال الجنوب الأول، وهي لا تزال، في الاستقلال الثاني، موجودة في دائرة التأثير، ولن تُختزل في نزوة قبلية أو صفقة نفطية.
إنّ الأزمة التي تعيشها حضرموت اليوم ليست انقطاع كهرباء أو شحّ وقود فحسب، بل مشروع إضعاف ممنهج، يبدأ بتجويع الناس وتعميم الفوضى، ويمر عبر عسكرة المجتمع لتفريغ طاقاته، وينتهي بتغذية الانقسامات المذهبية والقبلية، حتى ينشغل الناس عن سؤال الحق والقرار والسيادة.
وإذا كان الحراك الشعبي الأخير قد خرج من رحم المعاناة، فهو اليوم يقف على مفترق طرق: إمّا أن يبقى عفويًا مبعثرًا يسهل اختراقه وتوجيهه ضد نفسه، أو يتحوّل إلى قوة منظمة تعرف أهدافها: استعادة الاستقرار، بناء مؤسسات، وتحصين القرار الحضرمي من أي ابتلاع جديد.
التاريخ هنا ليس ترفًا في السرد، بل هو سلاح للوعي، في زمن السلطنات الكثيرية والقعيطية، كانت حضرموت سدًّا منيعًا في وجه الدعوات الدينية المتعصبة التي حاولت التمدد من شمال الجزيرة وجنوبها، تمسكت بمدرستها المذهبية الوسطية، وحافظت على توازنها الفكري، فلم تسمح للغلو أن يلوث منابرها أو لخطاب الكراهية أن يتسلل إلى ساحاتها، من أحمد بن عيسى المهاجر بدأت المدرسة الحضرمية، دعوةً أصيلة امتدت إلى مشارق الأرض، وستبقى حتى آخر الحقب، عصية على الكسر، وموحدة للوادي والصحراء والساحل تحت هوية واحدة.
اليوم، محاولة إعادة بعث العصبوية والإرهاب، سواء عبر النسيج القبلي أو المذهبي، ستلقى المصير نفسه الذي لقيه التشدد في الماضي: ستدفنه حضرموت في صحرائها، كما دفنته من قبل، ولن يخرج منه سوى الغبار.
لكن التحدي الراهن يتجاوز المعركة الفكرية؛ إنه معركة على القرار الاقتصادي والسياسي، لا تنمية بلا سيطرة حضرمية مباشرة على الموارد، ولا سيادة بلا إدارة شفافة للبترول والغاز والموانئ، لقد سئم الناس سماع أرقام المليارات وهي تُعلن، بينما يعيشون في ظلام، ويشربون ماءً مالحًا، ويقفون في طوابير البطالة.
الخروج من الأزمة يبدأ بقطع الشرايين التي تغذي الفساد: وقف الاحتكار السياسي والاقتصادي، وإنهاء حالة "التغاضي" التي جعلت النهب أمرًا مألوفًا، ووضع الموارد تحت إشراف حضرمي مباشر، ليس المطلوب معجزة، بل إرادة سياسية تضع الإنسان قبل الصفقة، والمجتمع قبل الفصيل.
كما أن الحل لا يكمن في عسكرة المجتمع وتوجيه الشباب إلى الميدان العسكري باعتباره المخرج الوحيد، نحن لا نبني جيشًا ينافس جيوش أوروبا، بل نحتاج قوة نوعية كافية للدفاع، مع فتح مجالات الاقتصاد والتعليم والصناعة أمام الشباب، حتى يجدوا في حضرموت أفقًا، لا جدارًا مسدودًا.
أي مستقبل يُبنى على القبلية المتشنجة أو المذهبية الضيقة هو مستقبل محكوم عليه بالفشل قبل أن يولد، فالتاريخ والسياسة كلاهما لا يرحمان المشاريع التي تنغلق على نفسها وتستقوي بغيرها، العالم يتعامل مع من يملك مشروعًا سياسيًا ناضجًا، لا مع من يرفع السلاح بلا رؤية أو يرفع الشعارات بلا مضمون.
لقد آن الأوان لأن يتوقف الصمت، فالصمت أمام مشروع إضعاف حضرموت ليس حيادًا، بل شراكة في الجريمة، كل يوم يمر دون مقاومة حقيقية لهذه العصبوية المدعومة من الخارج هو يوم إضافي في عمر الأزمة، ويوم إضافي يبتعد فيه الحلم الحضرمي عن التحقيق.
حضرموت ليست صورة على جدار، ولا ورقة في أرشيف المهاجرين، بل هي قوة حية في التاريخ والجغرافيا، من يقرأ سيرتها يعرف أن هذه الأرض لم تُعرف بالاستسلام، بل بالقدرة على النهوض في أصعب الظروف، واليوم، هي أمام امتحان جديد، لن يُحكم عليها فيه بما كانت عليه، بل بما ستفعله الآن.
وكما أغلقت حضرموت أبوابها في وجه التشدد في زمن السلطنات، ستغلقها اليوم، وكما دفنت التطرف في صحرائها بالأمس، ستدفنه غدًا، لأن الصحراء تعرف كيف تبتلع ما لا يليق بالبقاء، هذه الأرض التي وحدت الوادي والصحراء والساحل في هوية واحدة، ستبقى عصية على الكسر، حتى لو أحاطت بها العواصف من كل الجهات.
تنفيذ اتفاق الرياض 2019 كفيل بإنهاء كل هذه الفوضى، النخبة الحضرمية حجر الزاوية المتين في المعادلة الأمنية والعسكرية، تحرير المكلا 2016 بدعم إماراتي كان وسيبقى أعمق من أن تتفهمه العقول المأزومة، ما تشكل عند ذلك الفصل هو ذاته ما حدث في تحرير عدن 2015، الحوادث الكبرى تصنع التحولات الكبرى، لذلك يجب أن تعيّ القوى المختلفة مهما كانت أن في حضرموت حجر زاوية لن يتزحزح أبداً ومطلقاً.