غزة.. عامان من الجحيم

2025-08-21 10:59

 

الأمة التي امتلكت رصيداً تاريخياً وحضارياً صارت منكفئة تقلب دفاتر الماضي، والشعوب التي هتفت ذات "ربيع" أصبحت أسيرة ذاكرة محطمة تخشى أن يختطف صوتها مرة أخرى. الكل متورط في حالة العجز و كأنما أطبقت عليهم ظلمة خانقة.

عامان من الجحيم، فاقا حدود الإدراك: دمار يبتلع الأفق، أجساد تُنتشل وتحمل على الأكتاف كطقوس يومية، وجوع ينهش الروح. ليست مجرد صور حرب، بل مرآة سوداء، كأنها تكثّف قروناً من الاستيطان والقتل، وتفضح الحضارة الغربية في بريقها المزعوم.

ما يحدث في غزة ليس طارئاً بل نموذج مكثف ومعاصر لمشهد الإبادة الوحشية التي استمرت قرون بحق "السكان الأصليين" في "العالم الجديد" من قبل "الشرق الأوروبي المستنير". جميعهم في الواقع "عبرانيون" إلى "أرض الميعاد" التي لم يمنحها "الرب البروتستانتي" أو "الرب العبري" لأي منهم. إنه استعمار استيطاني في كل الأحوال.

لكن الإبادة هذه المرة ليست بالبنادق العتيقة وإنما بالطائرات التي تقطع السماء جيئة و ذهابا، على مدار الساعة، وتدمر أحياءً سكنية ومدناً وبلاداً بأكملها.

ورغم سطوة الإعلام الغربي، تتسرّب صور المذابح كشرخ في الوعي الإنساني، تهزّ الضمائر وتفضح قوةً عظمى تردّد خطاباتٍ مضلِّلة أمام هولوكوست يُبثّ حيًا. لقد انكشفت الأسطورة الصهيونية، كما انكشفت من قبل كلفة الاستيطان في أميركا (الحروب ضد الشعوب الأصلية) وأستراليا (الحرب السوداء) وغيرها…

كيف لمجتمعات القرن الحادي والعشرين أن تستوعب سلوك اليمين الإسرائيلي المتطرف بانغماساته الشعائرية التي تُشبه طقوس الإنسان البدائي المتوحّش؟ وكيف تستطيع أمريكا أن تفسّر للعالم حقيقة قيمها وهي الحاملة والحامية للمشروع الصهيوني الدموي؟

سفيرها في تل أبيب (مايك هاكبي) لا يتوانى عن إعلان مواقفه المتطرفة، التي تفوق حتى نزعات الثنائي المعتوه (بن غفير وسموتريتش).

غزّة، إذن، ليست مجرد مأساة، بل لحظة كاشفة: سقوط أنظمة الغرب في وحشيّتها، وافتضاح النظام العربي في عجزه، وتصدّع السردية التوراتية الإسرائيلية في عيون العالم.

إنها مأساة تفيض لتعلن ميلاد تاريخ مغاير، يكشف زيف الأساطير اللاهوتية، وكيف تحوّل فولكلور شعبي إلى نصوص في “كتاب مقدّس”، ثم إلى ذريعةٍ لاستعمارٍ استيطاني، لا يختلف في جوهره عمّا ارتُكب في قارات “العالم الجديد”. عامان من الدم والخراب أسقطا غشاوة الوهم عن العيون، وأيقظا الوعي الكوني على زيف المسوّغات الصهيونية.

وتبقى فلسطين، جوهر الصراع، جرحًا مفتوحًا بين أميركا وشعوب المنطقة، بين السرديات التوراتية والحقائق الاستيطانية، بين وقائع الإبادة ومعنى الدفاع عن الحرية. وهنا يتكثّف سؤال التاريخ: هل تكون نهاية المأساة موت أم انبعاث آخر؟ وهل يولد عالمٌ جديد، أم يبقى الكون عالقًا في ظلال الأسطورة الدموية؟

 

{احمد عبد اللاه }