*- شبوة برس – هاني سالم مسهور
المفارقة أن إسرائيل التي تملك اليوم فائضًا في القوة والنفوذ لا تملك قرارًا واضحًا بخصوص الحدود. فهي قادرة على أن تضرب طهران لكنها لا تستطيع أن تجيب عن سؤال: أين تبدأ دولتكم وأين تنتهي؟
منذ اللحظة التي استطاعت فيها الطائرات الإسرائيلية أن تصل إلى سماء طهران وتضرب قلب الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدا وكأن فائض القوة الإسرائيلي قد بلغ ذروته التاريخية. هنا تحديدًا يبرز السؤال المؤجل منذ أكثر من سبعة عقود: متى ستقرر إسرائيل ترسيم حدودها السياسية؟ سؤال يبدو بديهيًا بالنسبة إلى أي دولة طبيعية، لكنه يتحول إلى معضلة وجودية حين يتعلق بدولة قامت أصلًا على الغموض الجغرافي وعلى منطق “الحدود المرنة” القابلة للتمدد كلما اقتضت الحرب أو سمحت القوة.
المفارقة أن إسرائيل التي تملك اليوم فائضًا في القوة والنفوذ، لا تملك قرارًا واضحًا بخصوص الحدود. فهي قادرة على أن تضرب طهران، لكنها لا تستطيع أن تجيب عن سؤال: أين تبدأ دولتكم وأين تنتهي؟ وهنا تكمن أزمة إسرائيل الكبرى: أنها لم تعرف نفسها سياسيًا إلا بوصفها كيانًا مؤقتًا يعيش بين حرب وأخرى، وفي لحظة السلام تتراجع إلى عقدة الحصار، وكأنها لا تستطيع أن تعيش إلا في دائرة الخوف والتوسّع معًا.
هذا السؤال لا ينفصل عن محيطه الإقليمي. فكما يطرح الإسرائيليون مشروع “إسرائيل الكبرى” في إطار أبعاد توراتية غيبية، يطرح الحوثيون أطروحة “اليمن الكبير”، ويعيد بعض العرب إنتاج حنين إلى “الدولة الأموية” بعد سقوط الأسد، فيما يتجدد في أنقرة حلم “العثمانية الجديدة”، وفي طهران تستمر خرافة “تصدير الثورة الخمينية”. كلها مشاريع تتشابه في نزعتها التوسعية ورفضها الترسيم، أي رفض الاعتراف بالنهاية الطبيعية للدولة الوطنية. فهي مشاريع لا تعيش إلا في غيبية الماضي أو أوهام المستقبل، لكنها تعجز عن صياغة حاضر واقعي.
في قلب هذه الجدلية تقف إسرائيل. فهي دولة بلغت من القوة ما لم يبلغه أيّ مشروع إقليمي آخر: تتفوق عسكريًا، تتحالف مع الغرب، تملك ترسانة نووية، وتتحكم في مفاصل أمنية في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن حدودها السياسية غير مرسومة، بل مؤجلة إلى أجل غير مسمّى. لم تحسم حدودها مع فلسطين، ولا مع لبنان، والجولان بقي خطًا عسكريًا لا خطًا سياسيًا. وفي غزة والضفة الغربية، يتجلى فقر الرؤية: قصف، ضم، حصار، ولكن لا قرار نهائيا يرسم للدولة نهايتها وحدودها.
*- المسألة هنا ليست عسكرية بل عقلية، فالعقل السياسي الإسرائيلي أسير فكرة التوسّع منذ تأسيس الدولة. هرتزل كتب عن دولة لليهود لكن بن غوريون أسس لدولة لا تعرف حدودها النهائية
المسألة هنا ليست عسكرية بل عقلية. فالعقل السياسي الإسرائيلي أسير فكرة التوسّع منذ تأسيس الدولة. هرتزل كتب عن دولة لليهود، لكن بن غوريون أسس لدولة لا تعرف حدودها النهائية. كل جيل إسرائيلي عاش في هذه الجدلية: دولة لها وجود مادي لكنها بلا نهاية جغرافية. ولذلك فإن فائض القوة لا يقود إلى ترسيم بل إلى المزيد من المراوغة، لأن الترسيم يعني الاعتراف بأن المشروع وصل إلى نهايته.
لكن ماذا لو كان هرتزل أو بن غوريون حاضرين في هذه اللحظة الفائضة بالقوة؟ الأرجح أن هرتزل كان سيبحث عن لحظة الاعتراف الدولي بوصفها ذروة المشروع، فهو كان مفكرًا في السياسة قبل أن يكون أسيرًا للنصوص التوراتية. كان سيدرك أن القوة لا تمنح شرعية بلا حدود سياسية. أما بن غوريون، رجل الحرب الذي عرف كيف يقتنص اللحظة، ربما كان ليعلن أن الدولة تحتاج إلى جغرافيا ثابتة لتبقى. لكن الورثة من بعدهما فضّلوا العيش في عقلية الحصار: إسرائيل الأقوى عسكريًا، الأضعف سياسيًا، تعيش بلا حدود ثابتة.
إن التجارب التاريخية في المنطقة تكشف خطورة هذه العقلية. الدولة الأموية توسعت حتى وصلت إلى حدود الصين، لكنها انهارت في دمشق لأنها عجزت عن بناء دولة سياسية مستقرة. الإمبراطورية العثمانية حكمت لقرون لكنها انهارت لأنها تمسكت بحدود غير قابلة للتثبيت. الثورة الخمينية تصدرت شعار تصدير الثورة لكنها تحولت إلى عبء على إيران نفسها، فبدل أن تبني دولة وطنية متماسكة غرقت في مشاريع توسع انتهت بالهزيمة أمام إسرائيل في حرب اثني عشر يومًا. والحوثي اليوم يرفع شعار اليمن الكبير، لكنه عاجز حتى عن إدارة صنعاء. كل هذه المشاريع كانت محكومة بالانهيار لأنها رفضت ترسيم حدودها الطبيعية.
إسرائيل ليست استثناءً. ففائض قوتها لن يحميها من السؤال المؤجل. بل إن كل قنبلة تسقطها على غزة، وكل غارة على دمشق أو بيروت، وكل طلعة جوية تصل إلى طهران، تزيد من حجم المعضلة: دولة تملك كل شيء عدا الاعتراف بحدودها. وحتى لو وقّعت اتفاقًا أمنيًا مع سوريا أو تفاهمًا مع لبنان، فإن ذلك لن يكون ترسيمًا سياسيًا بل هدنة مؤقتة، لأن المشروع نفسه غير مستعد للاعتراف بالنهاية.
الخطر على إسرائيل لا يأتي من قوة خصومها بقدر ما يأتي من عقلها السياسي نفسه. فالعقل الذي يعيش على الغيبية التوراتية ويرفض الترسيم هو عقل محكوم بالتناقض. فدولة بلا حدود تعني دولة بلا نهاية طبيعية، وهذا ما يجعلها في حالة حرب دائمة. ومنطق الحرب الدائمة يعني أن إسرائيل ستظل تعيش في عقلية الحصار حتى لو توسعت جغرافيًا. هي أسيرة خوفها بقدر ما هي أسيرة قوّتها.
هنا يجب أن نفهم أن فائض القوة الإسرائيلي اليوم ليس نعمة مطلقة، بل لعنة سياسية. لأنه يمدّد زمن السؤال ولا يجيب عنه. فإسرائيل قادرة أن تعيش خمسين سنة أخرى في غياب الحدود، لكنها في النهاية ستجد نفسها أمام ذات المأزق: إما أن ترسم حدودها وتصبح دولة طبيعية بين الدول، أو أن تبقى مشروعًا توسعيًا مؤقتًا محكومًا بالحصار والعداء.
إن التحدي الحقيقي ليس في “متى تضرب إسرائيل طهران؟” فقد فعلت. بل في “متى تحدد إسرائيل أين تنتهي دولتها؟” وهذه لحظة لم تأت بعد، وربما لن تأتي إلا حين يدرك العقل الإسرائيلي أن الغيبية التوراتية لا تبني دولة، بل تؤجل موتها.
*- شبوة برس - صحيفة العربي