*- شبوة برس - حافظ الشجيفي
بين أزقة الذاكرة وأروقة التاريخ القريب، يقف فندق عدن موفنبيك السياحي، شاهداً صامتاً على مجد غابر وألم حاضر. فهو ليس مجرد جدران شاخصة تطل على البحر من واحته الاستراتيجية في قلب المدينة، بل هو نبض اقتصادي توقف فجأة، وذاكرة سياحية نزفت جراحها دون أن يلتئم جرحها. قبل عامين، نشرت في صحيفة "الأيام" الغرّاء، نداء بصوت يملؤه الأمل أن تتحرك الأيادي لتعيد إلى هذا الصرح حيويته، لكن صوتي، ككثير من الأصوات، ضاع في دهاليز اللامبالاة، فعاد الفندق أكثر انهياراً، والغبار أكثر سماكة، والسؤال أكثر إلحاحاً: لماذا هذا الإهمال المتعمد لقلب من قلوب عدن النابضة؟
لطالما كان هذا الفندق أكثر من مكان لنزلاء يبحثون عن ظل أو طعام. حيث كان بوابة المدينة إلى العالم، وسفيرها غير المُعلن، ومحوراً اقتصادياً يضخ الحياة في شرايين الأسواق القريبة والبعيدة. كان حكاية ترويها كل غرفة من غرفه، وكل شرفة تطل على مشهد بحري خلاب يجمع بين عراقة الميناء وحداثة الحركة. متجاوزا وظيفته في تقديم الخدمة الفندقية إلى خلق دورة اقتصادية تشمل الموظف والعامل والسائق، والبائع، والمرشد السياحي، والحرفي، فكان بمثابة شريان حيوي يرفد خزينة الدولة ويدعم مواردها في وقت كانت السياحة فيه عصباً مهماً من أعصاب الاقتصاد الوطني.
لكن طيران التحالف العربي، في معركته لاستعادة المدينة من براثن مليشيا الحوثي، حوّل هذا الصرح إلى ركام. وكانت المعادلة المنطقية تقتضي، بعد أن هدأت المدافع وتطهّرت الأرض من الغزاة، أن تتحول مسؤولية التدمير إلى مسؤولية إعمار. فمن المنطقي السياسي والأخلاقي أن تبادر دول التحالف، التي تسببت في تدميره، إلى إعادة ترميم ما أتلفته، ليس كبادرة تعويض فحسب، بل كاستثمار في استقرار المنطقة وإحياء لقطاع سياحي كان يمكن أن يكون جسراً للتواصل الإنساني والاقتصادي. لكن عشر سنوات مرت، والعشرون شهراً التي تلت مقالي الأول، لم تحرك ساكناً. فلم نرى لجان إعمار، ولم يعلن عن ميزانيات ترميم، بل بقي الفندق كجثة هامدة تذكّر الجميع بأن الحرب لا تنتهي برحيل المقاتلين، بل تستمر حين تتحول الأنقاض إلى نصب للنسيان.
والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: أين الحكومة؟ وأين محافظ عدن الذي يفترض أن تكون إعادة الحياة إلى هذا المعلم في صدارة أولوياته؟ وأين مكتب السياحة الذي من واجبه أن يحمي مقومات الصناعة التي يمثلها؟ يبدو أن هناك فجوة عميقة بين خطابات الإعمار على الورق وفي الاعلام، وبين واقع الإهمال على الأرض. فكل الأسباب الاقتصادية الواضحة كالشمس – من خلق فرص عمل، وجذب سياحي، وتحسين صورة المدينة – تدفع نحو التحرك الفوري. وكذلك كل الأسباب السياسية – من إرسال رسالة طمأنة للمستثمرين، وتأكيد عودة السلطة الشرعية – تؤكد ضرورة إعادة التأهيل. فلماذا التأخير؟ ولماذا الصمت؟
الثمن الذي تدفعه عدن لا يقاس فقط بفندق محطم، بل باقتصاد منهك، وصورة مشوّهة، وأهم من ذلك كله، بروح معنوية محطمة. فبقاء الفندق على حاله رسالة قاسية مفادها أن عدن، التي استبسل أبناؤها في الدفاع عنها، لا تستحق أن تنهض. وكأن هناك من يريد لها أن تبقى رهينة الظلام، غارقة في منحدرها المعيشي السحيق، كي تظل شاهدة على الفشل لا على الصمود. إنه إهمال متعمد لأسباب غير مفهومة، وكأن عدن الجميلة يجب أن تبقى جريحة كي لا تزدهر ولا تقوم لها قائمة من جديد.
إعادة ترميم فندق عدن ليست ترفاً، بل هي ضرورة وطنية. فهي استثمار في السلام، ورسالة للعالم بأن عدن قادرة على الانبعاث من تحت الرماد فضلا عن كونها خطوة عملية لقطع الطريق على من يريدون للمدينة أن تبقى في حالة من اليأس.وقد آن الأوان أن تتحول الكلمات اليوم إلى فعل، وأن تتحمل الحكومة، والمحافظة، ودول التحالف مسؤولياتها التاريخية. آن الأوان أن نرى رافعات البناء تحيط بالفندق، ليس لاستعادة حجر فقط، بل لاستعادة كرامة، وذاكرة، ومستقبل. فعدن تستحق أكثر من أن تبقى حبيسة أنقاض ماضيها، وهي قادرة على أن تعيد تاجها السياحي إذا توفرت الإرادة السياسية التي، للأسف، لا تزال غائبة حتى اليوم.