القوة الصلبة وحدها لا تكفي في التجربة الجنوبية
منذ عقود، شكّل الجنوب العربي ميدانًا لصراعات مركّبة، لم يكن جوهرها في امتلاك السلاح أو السيطرة على القرار السياسي والنفوذ المالي، بقدر ما كان في امتلاك الفكرة والقدرة على تحويلها إلى مشروع مجتمعي جامع.
فالتجارب التاريخية الحديثة تؤكد أن مصادر القوة الحقيقية لا تُقاس بكمية العتاد العسكري ولا بسطوة النفوذ، بل بمدى تجذر القيم التي تحرك الشعوب وتمنحها معنى للوجود والمقاومة.
غالبًا ما تنهض الأمم بفكرة تتجاوز العوامل المادية. ولعل التجربة الجنوبية تمثل نموذجًا لهذا المعنى العميق؛ إذ لم تكن معركته فقط ضد خصم خارجي أو غزو سياسي قادم من اليمن، بل كانت أيضًا نضالًا داخليًا لإعادة تعريف الذات والكرامة بعد عقود من التهميش والتجارب السياسية والايدلوجية المضطربة.
إن الفكرة الجنوبية التي تتمحور حول استحقاق الإنسان الجنوبي للعيش الكريم، لأن العدالة والكرامة تمثل الإطار القِيّمي الذي يمنح النضال الجنوبي مشروعيته الأخلاقية، والذي حول الهزيمة المؤقتة إلى تجربة وعي وتراكم معرفة. فالأمم لا تنهض بما تمتلكه من أدوات قوة، بل بما تؤمن به من معانٍ سامية.
لا يمكن قراءة الوضع الجنوبي بعيدًا عن التداخل بين الذاتي والموضوعي. فقد تكبّد الجنوب مظالم مزدوجة: ظلم الغزاة القادمين من اليمن الذين سعوا لإلغاء خصوصيته وهويته التاريخية والسياسية، وظلم بعض أبنائه الذين ورطوه في تجارب ايدلوجية دموية وفاشلة نتيجة سوء الإدارة والانقسام. هذه الازدواجية صنعت جرحًا عميقًا، لكنها أيضًا أعادت توجيه الوعي الجمعي نحو إدراك أن التحرر الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان الجنوبي ذاته.
لذلك، التحول المطلوب في الفهم الجنوبي لمعنى القوة يستدعي تجاوز المظاهر العسكرية والنفوذ نحو ترسيخ بنية فكرية وأخلاقية تؤمن بقدرة الإنسان الجنوبي على الفعل الحضاري. فبناء الدولة لا يقوم على السلاح فقط، بل على وضوح الرؤية ومتانة العقد الاجتماعي بين فئاته. فالكرامة الإنسانية والانتصار لها ليست نتيجة للنصر العسكري وحده، بل ثمرة للوعي والعدالة.
إن المجتمعات الحية تُختبر في لحظات الأزمات، والجنوب اليوم أمام امتحان تاريخي يتطلب نخبًا فكرية وسياسية تعيد تعريف مشروعه الاستراتيجي على أساس الإنسان لا الصراع باسمه. فالقوة المنشودة ليست في الغلبة لمن يمتلك القوة الصلبة بل في الفكرة، ولا في السيطرة والنفوذ بل في الوعي. وحين يدرك الإنسان الجنوبي أن ذاته وكرامته هما جوهر وجوده، يصبح النصر مهما تأخر أمرًا لا مفر منه.