الأميّة السياسية

2023-05-28 14:23



في المنطقة العربية، ثمة حقائق يخشى الحديث عنها لاعتبارات الخطوط الحمراء التي صاغها العقل الجمّعي، والأميّة السياسية واحدة من الحقائق التي لا يراد لأحد الاقتراب منها برغم وجودها وثأثيرها العميق في التفاصيل الصغيرة بحياة الناس ومعيشتهم.

فالسياسة هي المحرك لاقتصاديات المجتمعات، ورغم أنها -أي السياسة- كل شيء فإننا نعيشها بواقع الأميّة وإن تظاهرت المجتمعات بأنها ناضجة وقادرة على اتخاذ قراراتها فهي تعيش نمطية العربي التقليدي الذي اعتاد على تبرير الأشياء بمثاليات غير موجودة إلا في رأسه، بينما هو يمارس الخطايا ويكررها دائماً، ويصر على أنها نجاحات، وإن الإخفاقات إنْ وجدت، فقد جاءت من المؤامرة الكونية التي تُحاك على العربي أينما كان وفي أيّ زمان كان. يعاكس الأميّة السياسية الوعي السياسي، فهما مفهومان متضادان تماماً، وكلاهما يصلان بنا إلى ماهية نظرة العربي إلى أزماته في داخل بلاده، كل بلد على حدة.

فالمجتمعات لها خصائص تُشكلها، وعند هذه النقطة تظهر محورية المعنى عند نشوء الدولة الوطنية في منتصف القرن العشرين على اعتبار ثورة 23 يوليو 1952، حيث كانت هي ما يمكننا الاستناد عليه بأنه النشوء السياسي للنظم العربية المستقلة والنهاية للحقبة الاستعمارية، وعندما تشكلت الدولة الوطنية تشكلت على حقيقة أنها حملت تركة من مسيرة متوالية وصلت إلى حقيقة أن الاستقلال الوطني هو الغاية، غير أن التراكمات كانت ثقيلة على الأقطار الناشئة، ومع ذلك ذهبت إلى ما هو أبعد بالدوافع القومية.

الصراعات القُطرية اشتعلت مبكراً فمسائل الحدود السياسية شكّلت معضلة خلفتها القوى الاستعمارية، وشكلت تحدياً للدولة العربية الناشئة، في أتون ذلك نشأت كثير من الأقطار على أفكار نخبوية حالمة وأخرى على أيديولوجيات توسعية.

ففي اليمن كانت البلاد المحكومة بحكم إمامي تعتمد على قيام اليمن الكبير المستند على المذهب الزيدي الحالم بالتوسع في شبه الجزيرة العربية، بينما نشأ لبنان بصيغة «لبنان الكبير»، أي الوطن المشتمل على الأديان السماوية والطوائف الدينية، هذان نموذجان يعززان نظرية النشأة المضطربة، التي كان لا بد أن تصحح أو نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من دولتين فاشلتين بحسب المعايير الدولية.

الأميّة السياسية تكرست بأدعياء النصح وسطوة شيوخ الخطاب الديني السطحي، وهنا تكونت أوطان غارقة في تعقيدات ثقافية ومجتمعية نتيجة عدم استحضار الواقعية باستدراك المنطق المعيش، فلا يمكن استيراد النظام الديمقراطي وإلباسه لمجتمعات لم تعرف واجباتها قبل أن تعلم ماهي واجباتها، كذلك سبق أن فشلت تجربة استيراد النظام الاشتراكي في الأقطار العربية.

فلم تكن هذه المجتمعات تستطيع التكيف مع نظام يقوم على الإنتاجية العامة بالتأميم القسري على الممتلكات الخاصة لفئة أصيلة من الناس وتحويلها لمنافع عامة، هذه الاستيرادات من النظم غير اللائقة للثقافة الجمعية فشلت وأفشلت البلدان.

تكوين الأحزاب السياسية منحَ للنافذين فرصة الاحتماء من الملاحقة القانونية، فالحزبية العربية قامت على سلطة الفرد ومكانته الاجتماعية، وليس على ما يمتلكه الحزب من منتجات ترفع من القيمة الاقتصادية وتعلي من المكانة الإنسانية للأفراد. الأحزاب وفّرت حماية للفاسدين، الأمية السياسية هي الأكثر تأثيراً في حياتنا، لما تتميز به منطقتنا من أحداث وتقلبات، تمس نواحي حياتنا الحاضرة والمستقبلية، وشكلت للمواطنين ثقافات سياسية متنوعة، أفرزت إما مواقف سياسية ساذجة أو متطرفة.

الأمية السياسية ولّدت التطرف، فلم تستطع المجتمعات احتواء التنوع المجتمعي وتوظيفه بالطريقة الصحيحة لتكون المجتمعات منتجة. فمع تكريس الأمّية السياسية غاب الابتكار والإبداع، فها هي الحقيقة تقول إن ما أنتجته المنطقة العربية ليس غير الحروب وتدوير الصراعات. والمفجع أن الناتج الأكبر كان الإرهاب في تفسير واضح لدخول الكثير من الأقطار العربية ضمن قائمة الدول الأكثر فشلاً. هذه ليست النهاية، فما زلنا نذهب إلى ما هو أبعد ما دامت أمّيتنا السياسية باقية فينا. فالعدو هو أننا ما زلنا ننكر واقعنا البائس ونعرف كيف نزيفه ولا نقبل حتى بالبدء في استبداله.

*- الاتحاد