ذهب أبناء الجنوب إلى الوحدة في عام 1990 وهم يحملون نية صادقة وإيمانًا راسخًا بأن الوحدة هي الخيار التاريخي الطبيعي لشعبٍ واحد فرقته السياسة وجمّعته الجغرافيا والهوية. قدّم الجنوبيون كل شيء من أجل إنجاح هذا المشروع الوطني الكبير: تنازلوا عن الدولة، والعلم، والعملة، والعاصمة، وكرسي الرئاسة، وأداروا صفحة الماضي ليفتحوا صفحة جديدة من الشراكة والأمل بمستقبل موحّد مزدهر.
لكن سرعان ما تبيّن أن ما حدث لم يكن توحيدًا، بل "ضمًّا وإلحاقًا" بالقوة وبالخديعة. حوّلت القوى المتنفذة في صنعاء الوحدة إلى وسيلة للسيطرة والاستحواذ، لا إلى أداة للمساواة والتنمية. وأصبح الجنوب في نظرهم غنيمة حرب لا شريك وطن. تم تهميش الكوادر الجنوبية، وتصفية المؤسسات، وتسريح أكثر من 60 ألف موظف جنوبي من العسكريين والمدنيين، ونهب الثروات النفطية والمعدنية، وتدمير أكثر من 160 منشأة ومصنع، وبيع أصول الدولة في مزادات الفساد، بينما بقي المواطن الجنوبي مجرد رقم في الهامش.
وجاءت كارثة 7 يوليو 1994 لتكتب شهادة وفاة للوحدة التوافقية، حين اجتاحت القوات الشمالية الجنوب، وفرضت واقعًا احتلاليًا لا علاقة له بالوطنية، بل بالغلبة والسلاح. من ذلك اليوم وحتى اليوم، والجنوب يُدار بعقلية المنتصر لا بشراكة إخوة. دُفنت كل وعود الوحدة، وتحوّلت "الوحدة اليمنية" إلى كابوس مستمر في ذاكرة كل جنوبي.
ولذلك، لم يعد السؤال اليوم عن كيفية "تصحيح المسار"، لأن المسار من أساسه لم يكن عادلاً، ولا مشروعًا. بل أصبح السؤال الحقيقي والملح: كيف يستعيد الجنوبيون دولتهم التي قدّموها بأيديهم في سبيل حلم لم يتحقق؟
إن استعادة الدولة الجنوبية لم تعد خيارًا عاطفيًا أو نزعة انفصالية، بل ضرورة وطنية ملحّة لاستعادة الكرامة، والعدالة، والهوية، والتنمية التي غابت لثلاثة عقود. فالوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة، ولا تُبنى على الظلم، بل تقوم على إرادة الشعوب واحترام الشراكة. والجنوبيون اليوم لا يطالبون إلا بحقهم في تقرير مصيرهم، واستعادة دولتهم، وصناعة مستقبلهم بأيديهم، كما فعلت سنغافورة، وإريتريا، والبوسنة، وبنغلاديش، وغيرها من الشعوب التي رفضت البقاء في وحدة قسرية لا تخدمها.
فلقد آن الأوان أن تُصحح الوقائع لا "المسارات"، وأن يُنصف الجنوب قبل فوات الأوان، لأن الكرامة لا تُساوم، والحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.