‘‘حرب بلا نهاية ‘‘ بين البردوني وسلطة حرب 1994!

2013-08-31 14:29
‘‘حرب بلا نهاية ‘‘ بين البردوني وسلطة حرب 1994!
شبوة برس- خاص صنعاء

بعد أشهر من حرب 1994 قال المناوئ الأول والأشجع لمقدماتها ونتائجها: "انتظروا الذي سيحدث", وقد احتاج ابطال الحرب الزائفون 20 عاما ليدركوا ما قصده الشاعر الذي يبغضونه.

في قلب الرجل الذي يرى بسمعه فإنه لا نهاية لحرب داخلية (حرب الأشقاء داخل بيت الأحلام التي ما لبثت بعد تنزلها في "العربية السعيدة أن صارت كوابيس) إلا بالعدل والإنصاف وإلا فبالعودة إلى ما قبل الجمهورية اليمنية.

ادرك ببصيرته أن الحرب انتقلت من ظاهر الأرض إلى باطنها, وأن اليمنيين سيسددون ضريبة ما قدمت أيديهم عندما سمحوا يقيام حرب اجرامية استهدفت "اقتلاع الجنوب"! .

 

عدو الحرب الأول صار بعد انتهاء جولتها الأولى عدو السلطة الأول.

وفي السنوات اللاحقة علي 7 يوليو 1994 ضرب على اليمني الخارق" والرائي الفذ والمبصر في الزمن الأعمى حصار اتخذ وسائل متنوعة, أمنيا واعلاميا وثقافيا.

 

لكن أية قوة على وجه الأرض تملك أن تحاصر مبدعا يقيم في وجدان شعبه؟ كذلك تمكن البردوني من كسر الحصار مرات عديدة خلال السنوات الخمس اللاحقة على الحرب.

 

الثابت أن هناك "حربا بلا نهاية" أخرى تشنها سلطة حرب 94 ضد البردوني, أتخذت بعد انتقاله هو إلى باطن الأرض, أرض اليمنيين الذين أحبهم, افظع أشكالها بمصادرة وثائقه ومشاريع أعماله وبعض مؤلفاته وأشعاره التي لم تطبع.

 

هنا إشارات على ما كانت عليه العلاقة بين سلطة غاشمة جهول وبين مثقف منشق قاتل بضراوة, وحتى الرمق الأخير, الطغيان والزيف والقبح.

اشارات قدمت بها لحوار أجراه معه الزميل رشاد ثابت الصحفي والاعلامي والإذاعي المعروف في حضرموت, نشرته "النداء" في 12 نوفمبر 2008 بعد 13 عاما من تسجيله (1995) وبعد 9 سنوات من وفاة البردوني (30 أغسطس 1999).

 

***

بعض اللحظات الحرجة إذ تستدعى تجيء محمولة بشعور عذب، تماماً كما تفعل السنون في الحزن على أحبة رحلوا، وحين تكون «اللحظة الحرجة» في حضرة عبد الله البردوني تعلن العذوبة عن نفسها في هيئة ابتسامة عريضة!

كنت قد أعددت جيداً لمحاورته محدداً المحاور وفيها أسئلة مصاغة وكلمات مفاتيح، وذهبت اليه مطمئناً إلى أنني أوفيت بوعد قطعته له بأن تكون الاسئلة غير نمطية واستثنائية حسبما اشترط.

كان ينتظرني أعلى السلم أمام غرفته في الدور الثاني من منزله الذي أمضى فيه السنوات الأخيرة من عمره. صافح ورحب.

وقبل أن يتفضل بدعوتي إلى الجلوس باغتني أنا المقيم في سباتي الهني، القادم من حصن المعارضة المنيع, بسؤال جاء مموهاًَ في مظهره عارياً في مخبره: هل تضمن لي أنك جئت وحدك؟

 

كان يعرف انني جئت وحيداً ممثلاً لصحيفة معارضة هي «الوحدوي»، وقد استجبت للتحدي الماثل قائلاً: أضمن لك ذلك منذ مغادرتي الصحيفة حتى ركوب التاكسي الذي أقلني إلى منزلك, بعدها لا أضمن شيئاً!

 

تعمدت قول ذلك بنبرة هازئة، لتمويه صدمة السؤال، لكن الاحتدام المكتوم في كلامي لم يكن ليراوغ الذي «يرى بسمعه» فإذا هو يتعمد التبسط في الحديث معي بادئاً، بما فهمت أنا أنه اعتذار ضمني، بالإشارة إلى حالة الحصار المفروضة عليه اعلامياً بحيث لا يكاد صحفي يصل إليه إلا بعد أن يكون مرَّ بمرحلة «فلترة» لدى جهات معنية!

دعاني إلى الجلوس في حجرته الصغيرة التي تصور البعض أن جدرانها هي حدود عالمه الطبيعي والابداعي معاً.

 

وأضاف بنغمة يفوح منها السرور أنه أدلى صباح اليوم بحديث إلى فريق من الـــ B.B.C من وراء «الجماعة» (كان يفترض أنني أعرف من يقصد بالجماعة)، وزاد وكلماته الشامته تسابق قهقهته الشهيرة:« سيباغتون حين يبث الحديث».

 

نشر الحوار على حلقتين في صحيفة «الوحدوي» في 21 و28 إبريل 1998.

 

وبعد نشر الحلقة الثانية، اتصلت به لغرض الكتابة للصحيفة، وقد سألته عن أصداء الحوار، وفيما يشبه تحوط «رجل في حالة حصار» أبدى عدم ارتياحه للعناوين الإبرازية المثيرة التي صاحبت النشر بدءاَ من مانشتات الصفحة الأولى.

 

فبادلته اللعب بتذكيره بأن كل العناوين الضاجة مختارة مما قاله.

فاستدرك قائلاً: الصحفي الجيد هو من يفعل ذلك.

 

وقد عرفت منه، ومن آخرين، أن مسؤولين رفيعين هاتفوه مغاضبين فور نشر الحلقة الأولى.

وكنت أدرك أن الغضب مما قاله ليس سوى محطة في سياق غضب ممتد عليه جراء آرائه الانشقاقية بشأن الوحدة والديمقراطية والحكم.

 

بروحية شاعر استثنائي يستعصي على التنميطات الوحدوية والانفصالية الرائجة هذه الأيام, يواصل البردوني توجيه ضرباته المباغتة، حتى بعد 9 سنوات منه رحيله.

 

وفي هذا الحوار غير المنشور، الذي حصلت «النداء» على نسخة منه قبل شهور، يؤكد الرائي على «ثوابته» التي أعلنها قبيل قيام الوحدة اليمنية بأشهر وبعد الحرب.

فالوحدة التي أراد خطأ، والحرب خطيئة، والتعددية الحزبية خرافة، وحرية التعبير وهم، والنظام السياسي رئاسي أوتوقراطي.

 

في 14 فبراير 1995, أي بعد 7 أشهر من انتهاء حرب صيف94، التقى الزميل رشاد ثابت الشاعر البردوني في منزله، وحاوره في الفن والأدب والسياسة.

 

سنتذاك كانت العتمة هي المتوَّجة بظلال الحرب ودخان القذائف، ولم يجد الحوار طريقة إلى النشر.

وإذ تنشر «النداء» مقتطفات منه، لتلفت الانتباه إلى أن البردوني عبَّر غير مرة عن المواقف ذاتها حيال الوحدة والحرب والحكم.

وقد استمعت منه في لقائين لآرائه في الوحدة والحرب، ومنها استهجانه موقف النخب السياسية من حرب 94، إذ قال: «هل أحد يرضى باقتلاع الجنوب... لو كانت الأحزاب حقيقية لما فُرض عليها ذلك»، و «اليمن شعب واحد، لكن ماعرفنا (يوماً) دولة واحدة»، و«الانفصال قائم مادام هناك غالب ومغلوب، ويمن محكوم بفرد».

 

قال ذلك وأكثر منه، وبحساسية الفنان الذي كانه، وبعينيْ «وحدوي» حقيقي رأس أول كيان مدني وحدوي يمني (إتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين)، تنبأ بعدم امكانية استمرار الحالة التي أفرزتها الحرب؟.

 

 وقال: «انتظروا ما سوف يحدث».

* الكاتب والصحفي ( سامى غالب ).