لا يمكن فهم الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران دون التوقف عند البنية التحتية الاستخباراتية والإقليمية التي لعبت دورًا غير مباشر، لكنه فعّال، في تسهيل الضربات. من أبرز هذه الأدوات: منظومة الإنذار المبكر والرصد التي يمتلكها الناتو، وتحديدًا تلك المتمركزة في الأراضي التركية.
قاعدة الرادار التابعة للناتو في مدينة ملاطية (Malatya) جنوب شرقي تركيا، والمعروفة باسم كوريجيك (Kürecik Radar Station)، أنشئت رسميًا عام 2012، ضمن منظومة الدفاع الصاروخي الأوروبية التابعة للناتو. تموضع هذه القاعدة لم يكن اعتباطيًا؛ فموقعها الجغرافي مصمم ليراقب النشاطات الصاروخية القادمة من الشرق، وتحديدًا من إيران.
الرادار المستخدم هناك هو من طراز AN/TPY-2 عالي القدرة، والمصمم لرصد الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وتقديم بيانات فورية عن مساراتها وزوايا إطلاقها.
من الناحية التقنية، يتم نقل البيانات التي تجمعها القاعدة إلى مركز القيادة والتحكم الأميركي في ألمانيا، وتحديدًا في قاعدة رامشتاين الجوية، حيث تُعالج وتُدمج مع معلومات أخرى، ثم تُمرر ضمن الشبكة العسكرية المشتركة لحلف الناتو، والتي تشمل إسرائيل بحكم التنسيق الأمني العميق مع واشنطن، رغم عدم كونها عضوًا رسميًا في الحلف.
هذه المنظومة تُستخدم بشكل عملي في توفير بيانات فورية لأغراض الاعتراض (interception) أو توجيه ضربات استباقية.
ما يدعم هذا التقييم أن وسائل إعلام إسرائيلية تحدثت في سياق تغطية الحرب الأخيرة عن “تفوق استخباراتي” ساهم في تحييد جزء كبير من الصواريخ الإيرانية. ورغم أن التصريحات لم تشر مباشرة إلى تركيا، إلا أن طبيعة النظام الاستخباراتي المستخدم، وآليات الناتو المعروفة، تجعل الإشارة إلى قاعدة كوريجيك أمرًا شبه محسوم من الناحية التحليلية.
كما أن مستشارين عسكريين سابقين في الجيش الإسرائيلي ألمحوا في مقابلات تلفزيونية إلى أن أحد العوامل الحاسمة في تقليل الخسائر الإسرائيلية كان “الرصد المبكر عبر شبكات الحلفاء”، وهي عبارة غالبًا ما تُستخدم في وصف الدعم الذي تقدمه البنى التحتية الغربية المنتشرة في شرق أوروبا وتركيا.
تركيا، من جانبها، لم تنفِ هذه الصلة، لكنها تكتفي دائمًا بالقول إن القاعدة “تخضع لإدارة الناتو” وأن “أنقرة غير معنية بتوجيه استخباراته لأي طرف”، وهو تصريح غير دقيق من منظور السيادة الأمنية.
فالوقائع تُبيّن أن تركيا، بحكم استضافتها لهذه المنظومة، تتيح عمليًا تمرير بيانات استخباراتية بالغة الحساسية إلى أطراف تستخدمها ضد دول الجوار، وتحديدًا إيران، في إطار حسابات إقليمية لا يمكن فصلها عن التموضع التركي العام ضمن استراتيجيات الحلف الغربي.
على المستوى السياسي، تُظهر هذه الحالة تناقضًا جوهريًا في الخطاب التركي الرسمي، الذي يدّعي دعم القضية الفلسطينية والمواجهة مع إسرائيل، بينما تُستخدم أراضيه في رصد وتحييد الصواريخ التي تشكل جزءًا من منظومة الردع الإقليمية لإيران، والتي ترتبط، من الناحية الجيوسياسية، بمحور المقاومة الذي تُعلن أنقرة دعم بعض أطرافه.
هذا التناقض يتسع أكثر حين نُدرك أن تركيا لم تتخذ أي إجراء لتقييد نشاط هذه القاعدة منذ إنشائها، رغم توتر علاقاتها مع إسرائيل في فترات متعددة، مما يشير إلى أن وجود القاعدة لا يُنظر إليه باعتباره تفصيلًا عسكريًا ثانويًا، بل مكونًا أساسيًا في البنية الدفاعية التي التزمت بها أنقرة في إطار حلفها الأطلسي.
وعند تحليل السلوك التركي في مجمله، يتضح أن تركيا تحاول الاحتفاظ بموقع “العضو الفاعل في الناتو” وفي الوقت ذاته “المدافع عن القضايا الإسلامية”، لكن الأحداث الأخيرة تُبيّن أن هذا التموضع لم يعد ممكنًا دون كلفة سياسية.
الفاعلية الاستخباراتية التي حصلت عليها إسرائيل خلال الاشتباك الأخير مع إيران، حتى وإن لم تكن مبنية فقط على الرادار التركي، فإنها لا يمكن استبعاد مساهمة هذا الرادار فيها، خاصة أن منظومات مثل القبة الحديدية، ومقلاع داوود، وأنظمة الإنذار الأميركية في إسرائيل تعتمد في جزء منها على بيانات أولية تُجمع عبر شبكة الناتو.
إن عدم اتخاذ أي إجراء لوقف هذه البيانات، أو حتى مراجعة بروتوكولات تبادلها، يُعد قبولًا ضمنيًا باستخدام الأراضي التركية في عمليات تهدد أمن دولة إقليمية تُعد شريكًا في ملفات كثيرة، من الطاقة إلى الأمن الحدودي.
ختامًا، من المهم إدراك أن المسألة تتجاوز تركيا كدولة إلى البنية المؤسسية للناتو في المنطقة، لكن هذا لا يُعفي أنقرة من المسؤولية.
فالدولة التي تستضيف منشأة رصد موجّهة ضد دولة جارة، وتعلم أن هذه البيانات تُستخدم من قبل إسرائيل، لا يمكن أن تدّعي الحياد.
والمعادلة هنا ليست أخلاقية فقط، بل استراتيجية: السماح بالمعلومة هو مشاركة في الضربة.
*- عن موقع تجارة الكون