جاء المجلس الانتقالي الجنوبي ليكمل مسيرة أبنائه الذين بدأوا خطوات نحو الحرية والسيادة منذ عقود، خطوات حاولت منظومة حكم الشمال عبرها تهميش الصوت الجنوبي وتدمير مقوماته. ولم يأتِ المجلس الانتقالي إلا استجابةً لتلك المسوغات الشرعية المستمدة من الأرض والإنسان، ولضمان كفالة حقوق وحريات الجنوبيين وصونها، بما يعكس إرادة شعبية حقيقية ورؤية واضحة لبناء جنوب مستقل ومتماسك.
لم يأتِ المجلس، كما يُفترض، من أجل كسب المال أو المناصب العليا والمواقع المحصورة، بل جاء ليؤكد أن التأمين الحقيقي على الحياة والمستقبل ينطلق من مبدأ المواطنة المتساوية، ومن ضمان الحقوق الأساسية لكل جنوبي، بعيدًا عن المحسوبيات والولاءات الضيقة، ومنسجمًا مع إرادة الأرض والإنسان الشرعية.
العالم في حركة دائمة ومستمرّة، لا يتوقف عند الماضي، بل يسعى لتحقيق توازن حقيقي بين الماضي والحاضر والمستقبل. وفي هذا السياق، يضع المجلس الانتقالي الجنوبي خططًا استراتيجية لبناء جنوب حديث ومستقل، يحفظ الإرث التاريخي ويواكب متطلبات العصر، مع ضمان حقوق وحريات كل مواطن، بعيدًا عن المحسوبيات والمصالح الضيقة، ومنطلقًا من مبدأ المواطنة المتساوية.
تأسس المجلس الانتقالي الجنوبي لتحقيق هذا التوازن والندية في إدارة شؤون الجنوب، ومع أنه يواجه بعض التعقيدات السياسية، إلا أن هذه التعقيدات قابلة للتعديل، ولإعادة صياغة وصناعة القرار، واستكشاف البدائل المناسبة بما يخدم مصالح الجنوبيين ويرسخ استقلالية القرار.
ومنذ انطلاق الثورات وحتى الاحتفال بذكراها، نشأت وتأسست كيانات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية متعددة، وهذا يعد دليلًا واضحًا على التحولات التي نعيشها وتحيط بنا، ويعكس قدرة الجنوبيين على المبادرة والتنظيم، والاستجابة للتحديات الراهنة، بما يمهد الطريق أمام المجلس الانتقالي الجنوبي ليواصل تحقيق التوازن، وصون الحقوق، وبناء جنوب حديث مستقل.
لم نعد اليوم نحتكم إلى سلاسل متوارثة من الحكم، بل أصبحنا نتعامل مع سلاسل سياسية واقتصادية وثقافية، شبيهة بسلاسل التوريد، تتحكم في مجريات الأمور وتحدد فرص النجاح أو الفشل. وفي هذا السياق، يظل الواقع السياسي هو المفتاح السحري لفهم الأحداث، وصناعة القرارات، وضمان أن تكون السياسات والتنمية في الجنوب محكومة بالحقائق العملية والفرص الواقعية، بعيدًا عن النظريات أو الطموحات غير المدعومة بالواقع.
اليوم، وفي كل ثانية، هناك منشور أو تغريدة تنتقد تارة، وتصوب جام غضبها تارة أخرى على شخوص ورموز ثورية أو سياسية، بحثًا عن مواقع الاصطياد على سواحلها. هذا الواقع الرقمي يعكس تحولات المجتمع في التفاعل السياسي والثقافي، ويضع أمام المجلس الانتقالي الجنوبي تحديًا مزدوجًا: إدارة الحوار العام بوعي، والحفاظ على الثوابت الوطنية، مع الاستفادة من هذا الفضاء للتواصل وبناء رؤية مشتركة للجنوب الحديث.
لقد رأينا، من الماضي القريب وحتى وقتنا الحاضر، كيف أن بعض الشخصيات استغلت قدراتها ضمن مكونات النظام لاستلاب الحقوق السياسية لصالحها، وتوظيفها في مصالح شخصية أو حزبية. وليس بخافٍ على أحد أن الأحزاب اليمنية في غالبيتها أحزاب تورث ولا تنتخب، ولو كانت الانتخابات مجرد شكل سياسي استعراضي أمام الجمهور، بعيدًا عن أي مبدأ حقيقي للمساءلة والمشاركة الشعبية. هذا الواقع يؤكد الحاجة إلى نهج جنوبي جديد قائم على الشفافية، المواطنة المتساوية، وإدارة الحقوق والواجبات بشكل عادل.
بالأمس، كان هناك خطاب متلفز وذكي، ظهر فيه نجل الرئيس السابق لنظام حكم الشمال، قائد الحرس الجمهوري السابق، والحالي بدرجة سفير، أحمد علي عبدالله صالح، من مكتب قناة اليمن اليوم، وهو يرتل ويتلو صفحات الزعيم كما يحلو الكلام عنه، في عملية إجلال وتوريث يمنية لسلالة سياسية واقتصادية وثقافية تريد أن تبقى حراس الجمهورية. هذا المشهد يؤكد استمرار النهج التقليدي في توارث السلطة والنفوذ، ويبرز التحديات التي تواجه أي محاولة للتغيير والإصلاح السياسي في اليمن والجنوب.
الأحزاب اليمنية التي لم يأفل نجمها السياسي، هي تلك التي ترتدي العباءة والعمامة والكرافتة، في محاولة للاندماج في واقع مغاير ومفاجئ، لكنها في جوهرها لم تتغير، ولا تزال تسعى للحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي كما عهدناه.
لذلك، ومن أجل مواجهة هذه التحديات، لابد من وجود طفرة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تتمتع بتركيبة جينية مختلفة، قادرة على الابتكار، إدارة التغيير، وصنع مستقبل جنوبي حديث مستقل، بعيدًا عن التوريث التقليدي والمحسوبيات الضيقة، ومنطلقًا من مبادئ الشفافية، المواطنة المتساوية، والتحديث المؤسسي.
وتعزز هذه الطفرة أيضًا الحضور والتواجد السياسي، والقيم والأخلاق السياسية، مع الاعتراف بأن السياسة فن الممكن، مما يضمن أن تكون القرارات والاستراتيجيات متوازنة بين الطموح الواقعي والمبادئ الأخلاقية، ويصنع نموذجًا جنوبيًا قياديًا يختلف عن التجارب التقليدية السابقة.
دعونا نعمل على مراجعة الصور التاريخية المؤرخة والموثقة، التي تنقل بعض الجوانب السياسية والبعد الأخلاقي، لتكون دليلًا للقيادات الجنوبية في اتخاذ القرارات الصحيحة. ذلك يصبح أكثر أهمية في ظل الفجوة السياسية التي نمر بها، أو في مواجهة محاولات الآخرين لجعل هذه الفجوة مفتوحة وواسعة، بما يهدد وحدة واستقرار الجنوب، ويعيق بناء نموذج جنوبي مستقل وحديث قائم على القيم والأخلاق.
ما الذي يريده الآخرون من الجنوب ككل، بمفهومهم ومقاصدهم، وما هو المرجو من المجلس الانتقالي الجنوبي وقياداته أن يفعله ويحققه ويخرج به نتائج ملموسة؟ هناك خلافات.. نعم، وهي بلا حصر وتتشابك، لكنها في الوقت ذاته تشكل دعوة للمجلس والقيادات الجنوبية لتوحيد الرؤية، استثمار الفرص، وتقديم حلول استراتيجية تضمن مصالح الجنوب وتحقق طموحات أبنائه في الاستقلال والتقدم.
وهل المجلس الانتقالي الجنوبي وقيادته، بعد نحو ثماني سنوات من التأسيس في عدن وتشكيل هيئة رئاسته، وتحقيق الشراكة والمناصفة مع فارق ضئيل في الصلاحيات الممنوحة له، قد تمكن من تحقيق ما يصبو إليه ويرجوه شعب الجنوب؟ هذا التساؤل يفتح الباب أمام مراجعة الإنجازات، التعلم من التحديات، ووضع استراتيجيات جديدة تضمن الاستجابة الفعلية لتطلعات الجنوبيين.
فإذا قسنا ذلك مع مستويات أخرى، مثل عقد اللقاء التشاوري للحوار الوطني الجنوبي والخروج بوثيقته (الأخذ بالآراء)، مهما كان النقص في الإلمام أو الاختلاف في التوجهات بين البعض، إلا أن ذلك يعد مؤشرًا مهمًا على تحقيق نتائج المشاورات. وهذه النتائج لابد أن تستمر لتثمر بشكل دائم ومستدام، بما يعزز التلاقي والتلاقح الفكري والسياسي بين كل القوى والقيادات الجنوبية، ويدعم بناء جنوب حديث مستقل ومتماسك.
الدعوة اليوم يجب أن يتم توسعتها، ليس كما كانت الفجوة السياسية الأولى، بل بهدف ردمها وتقليل حجمها ونسبة تأثيرها على أداء الجنوب. وهذا يتطلب جهودًا مستمرة من المجلس الانتقالي الجنوبي وقياداته لتوحيد الرؤية، تعزيز المشاركة، وبناء آليات فعالة لتحقيق التلاقي والتوافق، بما يضمن تحقيق أهداف الجنوب واستقراره.
الدعوة اليوم موجهة إلى كل الجنوبيين للقدوم إلى عدن والالتقاء فيها، مع التأكيد على الابتعاد عن اللامبدأ، وهو المحاصصة الحزبية أو القبلية، التي يسعى البعض إلى جعلها حصنًا وقوة له في أي لقاء. فالنجاح الحقيقي يكمن في توحيد الرؤية، احترام المبادئ، والعمل على مصالح الجنوب العليا بعيدًا عن الانقسامات الضيقة.
من أراد البناء الحقيقي للجنوب، فعليه أن يسهم من الداخل بقدر ما يسهم في الخارج، فهذا هو المعيار الذي يحدد أن يكون سياسيًا من الدرجة الأولى، قادرًا على اتخاذ القرار، والمساهمة الفعلية في تحقيق التغيير والاستقرار، بعيدًا عن الشعارات أو المظاهر الشكلية.
من أراد من القيادات الجنوبية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والعسكرية أن يخلد اسمه في التاريخ، عليه أن يبدي شجاعته في النهوض ببلده وأرضه وشعبه الجنوبي، كما تفعل أشجار النخيل التي خصص ريعها للوقف وأعمال الخير. لقد أخذتم من هذه الأرض كل شيء في فترات حكمكم وقيادتكم ومناصبكم وتوجهاتكم السياسية، وتركتم آثارًا وأبعادًا سياسية مريرة ما زلنا نتذوق تبعاتها حتى اليوم، وهذا أمر ليس بخافٍ عليكم جميعًا، ويستدعي مراجعة النفس والعمل بجد لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
اليوم، ونحن نعيد النظر في تاريخنا، ونراجع تجاربنا السياسية والاجتماعية، ونواجه تحديات الحاضر، فإن المسؤولية على عاتق كل جنوبي، وكل قيادة في المجلس الانتقالي الجنوبي، أن تكون شجاعة، صادقة، ومبدعة. إن الطريق نحو جنوب حديث ومستقل، قائم على المواطنة المتساوية والقيم الأخلاقية والسياسية الراسخة، لن يتحقق إلا بالعمل الجماعي، بالمبادرة، وبالالتزام الثابت تجاه الأرض والشعب والتاريخ.
دعونا نضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، والتلاقي فوق كل اختلاف، والبناء فوق كل تخوين أو محاصصة، لنصنع معًا جنوبًا يليق بتاريخنا، وطموحاتنا، وأحلام أجيال المستقبل.
((القوة ليست في ما تملك، بل في ما تفعله بما لديك. والتغيير الحقيقي يبدأ عندما يقرر الناس أن يكونوا أبطالًا في قصتهم الخاصة)) .
— مقتبس وملهم من روح أفلام السينما العالمية السياسية والاجتماعي .
من أبناء عدن الحبيبة كتب المحامي جسار فاروق مكاوي
عدن .. جمعتكم طيبة