الجنوب العربي ليس دولة وظيفية

2025-12-22 19:15

 

لم يعد مقبولًا في النقاشات السياسية والفكرية المعاصرة اختزال الجنوب العربي في توصيفات وظيفية عابرة، أو التعامل معه بوصفه كيانًا أمنيًا أُنشئ لتأدية مهام محددة تخدم مصالح خارجية مؤقتة. فالجنوب العربي ليس نتاج فراغ سياسي، ولا حالة طارئة أفرزتها الصراعات، بل هو دولة سابقة ذات سيادة كاملة، امتلكت اعترافًا دوليًا وحدودًا معروفة ومؤسسات قائمة، قبل أن تدخل في تجربة وحدة سياسية مع دولة اليمن الشمالي عام 1990، وهي تجربة فشلت فشلًا بنيويًا نتيجة اختلال الشراكة، وتآكل الأسس القانونية والسياسية التي قامت عليها تلك الوحدة.

 

إن استدعاء مصطلح “الدولة الوظيفية” في توصيف الجنوب العربي ينطوي على قدر كبير من التجاوز التاريخي والتكييف السياسي القاصر، ذلك أن هذا المفهوم في أدبيات العلاقات الدولية يُستخدم عادة لوصف كيانات تُقاس شرعيتها بمدى أدائها لوظائف أمنية أو خدمية محددة، مع تعليق مسائل السيادة والتمثيل والمساءلة إلى أجل غير مسمى. وهو نموذج أثبتت التجارب أنه لا يصنع دولًا مستقرة، ولا يؤسس سلامًا مستدامًا، بل ينتج هشاشة سياسية وتبعية طويلة الأمد.

 

لقد كان الجنوب العربي، واليمن الشمالي كيانين مستقلين قبل اتفاق الوحدة، لكل منهما نظامه السياسي وحدوده وهويته السيادية. غير أن مسار الوحدة انحرف سريعًا عن غاياته المعلنة، وتحول إلى صيغة إقصائية جردت الجنوب العربي من دوره السياسي ومؤسساته، وألغت مبدأ الشراكة الذي يفترض أن يكون جوهر أي اتحاد بين دولتين. ومع تعاقب الأزمات والصراعات، بات واضحًا أن فشل تلك الوحدة لم يكن ظرفيًا أو قابلًا للإصلاح الجزئي، بل فشلًا هيكليًا أفضى إلى انهيار الإطار السياسي الذي جمع الطرفين.

 

وعليه، فإن ما يشهده الجنوب العربي اليوم لا يمكن توصيفه باعتباره نزعة انفصالية طارئة أو محاولة لإعادة رسم خرائط، بل هو مسار استعادة دولة قُطع مسارها السيادي قسرًا. ويتمتع هذا المسار بمقومات قانونية وسياسية تميّزه عن الحركات الانفصالية التقليدية، في مقدمتها وجود دولة سابقة ذات اعتراف دولي، وحدود جغرافية معروفة، وهوية وطنية راسخة، وحراك شعبي ممتد يطالب باستعادة الدولة على أساس سلمي وتدريجي.

 

ولا خلاف على أن الجنوب العربي يضطلع اليوم بأدوار أمنية مهمة تتصل بحماية الممرات البحرية، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار الإقليمي. غير أن هذه الأدوار لا تشكل مبرر وجود الدولة، ولا يمكن أن تكون أساس شرعيتها السياسية. فالأمن في جوهره وظيفة من وظائف الدولة ذات السيادة، لا بديلًا عنها، ولا إطارًا يحل محل المشروعية السياسية والتمثيل الشعبي وسيادة القانون. وعندما تُختزل الدولة في وظيفة أمنية، يتأخر بناء المؤسسات، وتُهمَّش العدالة، ويظل الاستقرار هشًا ومعرضًا للانهيار مع تغير موازين المصالح الدولية.

 

إن الإصرار على توصيف الجنوب العربي ككيان وظيفي يحمل في طياته مخاطر استراتيجية، أبرزها إضعاف الشرعية الداخلية، وتآكل الثقة الشعبية، وغياب مسارات العدالة الانتقالية، وفتح الباب مستقبلًا للطعن في أي ترتيبات سياسية لا تستند إلى إرادة شعبية واضحة. وهي نتائج لا تخدم تطلعات شعب الجنوب العربي، ولا تحقق مصالح المجتمع الدولي في استقرار طويل الأمد قائم على أسس قانونية وسياسية صلبة.

 

إن المقاربة الأكثر واقعية ومسؤولية تقتضي التعامل مع الجنوب العربي بوصفه مشروعًا سياديًا متكاملًا، لا ملفًا أمنيًا مؤقتًا. فدعم بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز الحكم الرشيد، وترسيخ سيادة القانون، وتشجيع الشمول السياسي، تمثل جميعها شروطًا ضرورية لأي استقرار حقيقي. كما أن اعتماد مسار تدريجي قائم على معايير واضحة للحوكمة والشرعية، ينسجم مع القواعد الدولية الناظمة لحق تقرير المصير في الحالات التي يثبت فيها فشل الوحدة السياسية فشلًا نهائيًا.

 

إن الجنوب العربي ليس دولة وُجدت لتؤدي وظيفة بالنيابة عن الآخرين، ولا كيانًا مؤقتًا تحدده حاجات اللحظة. إنه مشروع دولة ذات سيادة، يستند إلى تاريخ سياسي، وهوية وطنية، وحق قانوني في استعادة دولته. والسلام المستدام لا يُبنى عبر تفويض أمني أو حلول مؤقتة، بل عبر شراكة متوازنة مع دولة كاملة السيادة، قادرة على تمثيل شعبها وتحمل مسؤولياتها داخليًا وخارجيًا.