الهوية الجنوبية بين إرث الشمولية وضرورات الحاضر

2025-11-20 13:48

 

‏شهدت الهوية الوطنية الجنوبية، منذ تشكّل الدولة الحديثة في الجنوب، عمليات ممنهجة من التذويب لصالح ذهنية وحدوية عابرة للحدود، فرضت نفسها عبر مداخل متعددة: مرة باسم العروبة والقومية، ومرة باسم اليمننة، وثالثة باسم الأممية الثورية الاشتراكية. وقد أدى هذا التعدد في المرجعيات للهوية إلى إنتاج خطابات وحدوية متقلبة غير مستقرة، تفتقر إلى الأساس الاجتماعي والسياسي القادر على بناء دولة وطنية متماسكة.

 

على المستوى الفكري، ساهم هذا الخطاب في ترسيخ وعي مشوَّش عابر للحدود في غير سياقه التاريخي والثقافي، ما أتاح للإسلام السياسي المتربص (بدوره حركة عابرة للحدود) في مراحل لاحقة بعد 1990 مساحات تمدّد وفرص تأثير لم تكن متاحة لولا اعتساف الهوية الجنوبية.

 

وعلى المستوى المحلي، أدى تبنّي هذه الذهنيات إلى تشتيت الموارد والطاقات في مشاريع خارج أولويات المجتمع الجنوبي خلقت صراعات كان شعب الجنوب في غنى عنها. أما على المستوى الإقليمي، فقد عرقلت الشعارات الثورجية بناء علاقات طبيعية للدولة الجنوبية مع محيطها، إذ طغى الخطاب التعبوي على منطق المصالح والتوازنات الإقليمية والدولية.

 

ورغم الآثار السلبية لتلك المرحلة، فإن فشل مشروع الوحدة مع اليمن قد أتاح ما يمكن تسميته بـ "عودة الوعي الوطني الجنوبي". فقد أخذت الهوية الوطنية الجنوبية تستعيد عناصرها التاريخية والثقافية والجغرافية بوصفها الإطار الأكثر انسجاماً مع واقع المجتمع وتاريخه السياسي.

 

هذه العملية الواعية تبدو اليوم نقيضاً واضحًا لما طرحته الحركات القومجية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وهو ما يحاول التيار الإسلاموي إعادة إنتاجه في الزمن الراهن.

 

لكن هذا المسار الإيجابي لا يخلو من تحديات بنيوية؛ فالرواسب الشمولية لم تتلاشَ كليًّا. فالذهنية التي تشكّلت في سياقات حكم مركزي وتعبوي ما تزال حاضرة في بعض أنماط التفكير والممارسة السياسية لدى بعض القيادات الجنوبية. جوهر هذه الذهنية يقوم على التراتبية والتسلطية: رؤية هرمية للمجتمع تعتبر الفاعل السياسي مركزاً أعلى يملك الحق في توجيه المجال العام، لا شريكاً ضمن شبكة أفقية من الفاعلين. وهذا ما يخلق التباسًا بين مفاهيم سياسية أساسية: المنافسة تُساوى بالتهديد، حبّ الوطن يُخلط بالرغبة في السيطرة، والاعتزاز بالذات يتحول أحياناً إلى نزعة نرجسيه و انتقاص للآخر وتموضع عصبوي.

 

هذه الذهنيات تمثّل أحد أكبر التحديات أمام بناء مشروع وطني حديث قائم على الشراكة السياسية والمؤسسية. فإعادة بناء الهوية الوطنية ليست مجرد استعادة للذاكرة، بل هي عملية تأسيس لمعايير جديدة في التفكير السياسي: قبول التعدد، إدارة الاختلاف، وتقديم المصلحة العامة على النزعات الفئوية أو الأيديولوجية.

 

إن نجاح الجنوب في هذه المرحلة الانتقالية يتطلب تحوّلًا في الثقافة السياسية يوازي التحول في الهوية؛ أي انتقالاً من الإرث الشمولي إلى منطق الدولة، ومن الهرمية إلى منظور أفقـي يتأسس على التعاون والمصالح المشتركة. وبدون تجاوز هذه الرواسب، سيظل مشروع الهوية الوطنية الجنوبية معرضاً للارتباك أو إعادة إنتاج دوائر الإقصاء التي عان منها شعب الجنوب العربي في السابق.