المثقف الشمولي

2014-10-26 16:07

 

الثقافة دائرة مكتملة الحلقات متواصلة المقدمات والنتائج ، فهي منظومة فكرية واجتماعية تتحكم في قيم وسلوكيات ومخرجات المجتمع والفرد ، معتمدة على مدخلات ووقائع المجتمع وإمكاناته ومرجعياته ورواسبه التاريخية والجغرافية . المثقف في رأي الحلقة الأوضح من حلقات وطبقات المجتمع التي تمكن الباحث من تقيم الثقافة والفكر الجمعي للشعوب ليس استجابة لنظرية استعلائية مفادها النخبة والعامة ، بل هو تفسير لحتمية الأثر والمؤثر . المقصود بالمثقف أو المفكر هو القائد أو المنظر أو الموجه ذو النظرة البعيدة الذي يستقري الأحداث والمستقبل على أسس واقعية ومنطقية ، ويأتي دور المجتمع وشرائحه في التفاعل سلبا وإيجابا مع المثقف والمفكر وفقا لمعطيات المجتمع وخصائصه .

 

كشف الربيع العربي بنتائجه وتحدياته سوءة المثقف والمفكر العربي وتخبطه إذا بداء عاجزا ضعيفا يتابع الجماهير ويواكب انفعالاتها ومواقفها ، فضلا عن قيادة الشعوب والتأثير فيها ورسم مستقبلها والإسهام في تطور أنماطها الحياتية ، فبعض مثقفينا انفعل ونظَّر للشرعية الثورية متناسيا تخلف المجتمع وتواضع ثقافته الثورية ، وركب آخرون نظرية المؤامرة والتشكيك غافلين العوامل الاقتصادية والاجتماعية القابلة لإشعال الثورة وإذكاء الصراعات المجتمعية ، والبعض بدَّل اتجاهاته وخياراته السياسية ، فانقلب من أقصى اليمين لأقصى اليسار ، واختار البعض السير بنهج الثورة ونقيضها ، فهو الثائر في الميادين والساحات ، وهو أيضا التاجر والمتسلط بالمناصب والسلطات ، ورفع أغلبية مفكرينا راية الاستسلام لثقافة المجتمع ومتغيرات المرحلة عاجزين عن الصراخ والبحث عن الحلول وإيجاد المخرجات .

 

في رأيي حكمت سلوك المثقف وفكره ثلاث مسلمات ، وهي الشمولية في الفكر والأفكار ، الانفعال العاطفي ، وثنائية الحكم والتصنيف ، واتى هذه الجمود الفكري والثقافي للقبول بواقع وقيم مجتمعه وثقافته الجمعية ، فعجز المثقف التقليدي عن التأثير وقيادة مجتمعه ، وواجه المثقف المتمرد سلبية المجتمع وجمود ثقافته بالاستغراب والاستعلاء على مجتمعاتهم ، فانفصلوا عن واقعهم وعجزوا عن التأثير والتأثر .

 

عمل المثقف على تغيير وبعثرة سلوك وثقافة المجتمع وأفراده في طريقة التفكير والتعليم والسلوك اليومي بفرض أيدلوجيات فكرية وسياسية معلَّبة دون تفهّم العوامل التاريخية والمجتمعية التي رسخت هذه السلوكيات والقيم ، ولم يختاروا التدرج لتسويق فكرهم وثقافتهم ، واغفلوا انتهاج آلية عملية واضحة للترويج لقيم الحرية والديمقراطية والمساواة عند المثقف اليساري ، والعدل واستعادة الخلافة الإسلامية وقيم الإسلام عند المفكر الإسلامي .

 

واكب سلوك المثقف العربي انفعالا عاطفيا والانجراف مع مشاريع الشارع الغائية الأهداف وضبابية الرؤىة ، وغابت الدراسات والمبادرات العلمية القائمة على الاستقصاء وفهم حركة المجتمع وتطلعات المستقبل ، وبرزت المبادرات والمشاريع الانطباعية المتضاربة التي شحنت الجو الثقافي والفكري بالصراعات السياسية والاثنية والمذهبية التي قادت مجتمعات الثورة ونخبها إلى جمود سياسي واقتصادي ومجتمعي فشلت نخبه ومثقفوه لخلق التغيير وإبراز مشروعا تنويريا حديثا يستجيب للمتغيرات التي أفرزتها الثورات وتتقاطع ايجابيا مع قيم العولمة والسوق الحر وقيم الحداثة وإرساء الحريات .

 

التغيير الايجابي يبدءا في الذهن والفكر تحرر الإنسان العربي بفضل ثورات الربيع العربي من الجدران وتمترس في الساحات وظلت العقول والأفكار حبيسة الماضي وتحارب التغيير ولا تتقبل المستقبل ، فإطلاق الأحكام وغلبة الوصم في التصنيفات في كتابات مثقفينا ومفكرينا لا تتجاوز صحيح وخطا ومسلم وكافر وثوري وفلول . هذا الكسل الفكري في امتطاء الأحكام والتوصيفات السهلة عزل مثقفينا عن الواقع المعقد والمتصف بالتجاذبات المحلية والإقليمية والدولية التي تتطلب عقلية مركبة تنتهج النسبية في إطلاق الأحكام والتوصيف الدقيق للمجتمعات في تفاعلها وتطورها التاريخي والاقتصادي والسياسي .

 

الهزيمة النفسية والتخبط المعرفي والمجتمعي في التفاعل مع الواقع والمحيط والرقص بين النظريات والمشاريع المتضاربة أفقد المثقف البوصلة المعرفية في قيادة المجتمع والتأثير فيه ، فضلا عن احتلال الصدارة ورسم أهداف وأسس المستقبل .