على بعد أمتار مني الآن، وفي إحدى الحارات الفقيرة بمدينة دار سَعْد ذات النكهة اللحجية الأصيلة، يعيش عالم كبير، ومؤرخ شاهد على قرابة قرن من تقلبات الزمان، وجغرافي ذاعت كتبه في البلاد العربية، وطبعت طبعات كثيرة، وصار اسمه يتردد في الاوساط العلمية في اليمن والخليج وغيرها من البلاد العربية..
كنت إلى قبل شهور من الآن اظن هذا الرجل قد رحل عن الحياة، أو أنه يعيش في قصر هادئ في مدينة خليجية.. أو أنه عاكف على الكتب في مكتبة فارهة هنا أو هناك.. وإذا بي أكتشف أنه جاري، ولا يفصلني عنه إلا شارعان فقط!.
إنه العلامة الكبير: حسن صالح شهاب.. ولا أتوقع مثقفًا لم يسمع عنه على الأقل هنا في عدن.. مع أنه يملك شهرة كبيرة في الكويت وبقية دول الخليج العربي بسبب اهتمامه بعلم الملاحة البحرية عند العرب وتآليفه وتحقيقاته في هذا المجال..
بلغت مؤلفات هذا الرجل (30) كتابًا معظمها مطبوع في موضوعات متخصصة فريدة من نوعها تشكل مصادر للدارسين والباحثين، وكلها بين بحوث تحقيقات. فمن مؤلفاته: أضواء على تاريخ اليمن البحري، وفن الملاحة عند العرب، والدليل البحري عند العرب، وطُرق الملاحة التقليدية في الخليج العربي، علوم العرب البحرية من ابن ماجد إلى القطامي، والبُعد الجغرافي للملاحة العربية في المحيط الهندي، والعبادل سلاطين لحج وعدن، ويافع في عهد سلاطين آل عفيف وآل هرهرة، وعدن: فُرضة اليمن، والمعجم المفصَّل في مصطلحات الملاحة العربية القديمة... وغيرها.
وقد حقق مخطوطات مهمة في علم الملاحة البحرية تحقيقًا علميًا رصينًا، وأهم هذه المخطوطات: كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد للملاح الشهير شهاب الدين أحمد بن ماجد (تحت الطبع)، وكتاب الفوائد لابن ماجد أيضًا، وفرجة الهموم في العلامات والنجوم...إلخ.
وقد شاء الله لي أن أتعرف على هذا الرجل قبل شهور بواسطة صديق يعمل في إحدى مكتبات الشيخ عثمان، وعندما قابلته دهشت لتواضعه، فهو رجل مُسن، يلبس اللباس التقليدي لكبار السن من أهل عدن ولحج.. وكان مما أخبرني به أنه ولد في لحج سنة 1931م، وأنه درس في فيتنام، وأنه يحسن الإنجليزية، وأنه بدأ التأليف والبحث العلمي في أربعينيات القرن الماضي!.. وأنه عمل باحثًا في الكويت بين عامي 1981-1990م..
الرجل يعيش عزيز النفس، بعيدًا عن الأنظار، ويعشق العزلة والهدوء، ولا يعرف عنه جيرانه في الحي المجاور لمسجد شيخان بمدينة دار سعد شيئًا!.. والمؤلم أن هذا الرجل الكبير لم يلتفت إليه أحد، ولم ينل حظه من التقدير الذي حظي به من لا يملكون عشر معشار ما عنده... وهو الآن طريح الفراش منذ ثلاثة أشهر، يعاني أمراض الشيخوخة، ولا يقوى على الحركة، بعد أن رحل ابنه وابنته عن الحياة، ولا يجد من يسأل عنه، إلا ابنته الوحيدة وزوجته العجوز، مع أن مسؤولي مكتب الثقافة في محافظة عدن يعرفونه.. ويا ترى.. إذا كانت المساعدات العلاجية التي تصرف هنا وهناك لم تجد طريقها إلى هذا العَلَم الشامخ، فمن بعده يستحقها.. فلا أظن أنه بقي اليوم من العرب من هو مثله في تخصصه وخبرته وفنه وعلمه..
حفظ الله المؤرخ والجغرافي والمحقق الكبير حسن صالح شهاب... وأخلف على البلاد جيلاً يحترم العلماء ويرعاهم وينشر علمهم.
*- بقلم: نادر سعد العمري