لا يحتاج الجنوبيون في الوقت الحالي إلى شيء أكثر من حاجتهم للقراءة الصحيحة لواقعهم كل تعقيداته، والحرص على تقوية لحمتهم الداخلية، وتوحيد جبهتهم في مواجهة التحديات التي تهدد قضيتهم بل وتهدد وجودهم.
لا ثابت في السياسة، وكل الوسائل المشروعة متاحة للنضال، وعلى كل جنوبي عاقل راشد أن يتيقن من أن الجنوب لن يستعاد بالشعارات الرنانة ولا بالخطابات الحماسية؛ فمثل هكذا شعارات على قدر ما حركت في الناس سابقاً مشاعر الثورة والحماسة وهيجت الجماهير للخروج والرفض والمقاومة، إلا أن تأثير هذا النمط من النضال اليوم لم يعد بتلك القوة، بل إنه قد يبدو في نظر العالم عبثاً وصراخاً وعويلاً في صحراء جرداء.
كان يمكن للجنوب أن يحقق شيئاً مهماً خلال الفترة الماضية، يتجاوز ما تحقق حتى اليوم، إذا ما أجاد استثمار الفرص التي أتيحت له، وتعامل معها بحرفية سياسية، وحرص على قراءة الواقع بذكاء، وعمد إلى توظيف الصراع القائم لمصلحة قضيته، لكنه فشل في ذلك بكل مكوناته، أكانت تلك المحسوبة على الشرعية المهترئة التي أفسدها المال، أو فصيل المقاومة الجنوبية التي تفرعت بين مقاوم يريد ثمن الرصاصة التي أطلقها، ومقاوم آخر يعتقد أنه وحده من يملك حق توزيع صكوك الوطنية، فيمنحها لمن يشاء وينزعها عمن يشاء في مواجهة رفاقه الذين عجز عن فهم تفكيرهم وأساليبهم في اللعبة السياسية وفق ما أتيح لهم قراءته من تعقيدات المشهد.
ووفق ما سلف، فإن مصيبة الجنوب التي لا يتحدث عنها كثيرون تكمن في أن الصوت الخالي من المضمون المفيد هو الأعلى والأكثر طغياناً على المشهد في جنوب اللحظة. من خلال ذلك، يبرز في واقع الجنوب أناس كثر لا يريدون التفكير بهدوء لمعرفة أين هم اليوم؟ وأي طريق ينبغي أن يسلكوه غداً؟ وأي الوسائل والأدوات أضمن للوصول إلى الغايات المنشودة؟
خلال 26 عاماً من عمر الوحدة، تعرض الجنوب لمخطط تدمير شامل، نُفذ بدهاء حتى أتى على كل شيء، وكانت أبرز مظاهر هذا الدمار هي تدمير العقل والثقافة، وللأسف، حتى السلوك والأخلاق. كثير من سياسيينا في الحكومة والمقاومة لا يستطيعون التفكير أبعد من أنوفهم، وإن تجاوزوها فلن تزيد عن جيوبهم؛ ومثقفونا وأكاديميونا كل زادهم ثقافة سفرية مصدرها الـ"فيس" والـ"واتسآب"؛ وكثير من مجتمعنا فقد ما كان يتميز ويفاخر به من سلوك راق حتى يكاد يصل مرحلة التوحش.
في كومة كل هذه السلبيات القاتلة، تدور القضية الجنوبية، لا أحد يفكر بوعي، وكثيرون لايديرون اختلافاتهم بوعي وإدراك يمكن أن يوصلهم إلى اتفاق، والأسوأ أن يفتقد جمع غير قليل منا إلى الإستقامة وحسن الخلق في التعامل مع من نختلف معهم.
في كل العالم، إدارة الفعل السياسي والقضايا السياسية بالغة التعقيد تحتاج إلى العقل والدهاء، إلا لدينا، يبدو الحال أقرب للتوهان؛ فالكل يرى في ذاته مهندساً سياسياً يفتي وينتقد ويخون ويصدر الأحكام، وإذا ما وجد قائد يستطيع أن ينحني قليلاً للعاصفة حتى تمر، فهو في نظره خائن ما لم ينزل إلى كل ناشط وثائر ليشرح لهم ويطمئنهم لماذا انحنى قليلاً، ولماذا كان يرتدي ذلك القميص ليس غيره، وما غايته من السلام على فلان من الناس... وهكذا.
*- منصور صالح – كاتب ومحلل سياسي