بسم الله الرحمن الرحيم
رؤية أنصار الله لجذور القضية الجنوبية: مقدمة إلى فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني
المقدمة:
قبل الدخول في جذور القضية الجنوبية لا بد من الرجوع إلى التاريخ؛ بغرض فهم القضية لا لتحميل مرحلة ما قبل عام 90 م المسؤولية، إضافة إلى أنه لا بد من تقييم تجربة الوحدة (1990-1994 ) لمعرفة الأسباب المباشرة والبنائية التي أنشأت القضية، فتلك الفترة تحديداً وليس ما قبلها أو ما بعدها هي الفترة التي تكونت فيها الجذور السياسية بشكل رئيسي، مع أنه لا يمكننا إنكارَ دور الفترة الزمنية ما قبل عام 90م كعامل مساعد أو ما بعد عام 94م خصوصاً في نشوء البعد الحقوقي للقضية، إلا أن دورهما لا يتجاوز العوامل المساعدة الغير منشئة للقضية من الناحية السياسية، وبهذا فنحن نعتبر أن الحرب التي أشعلت في عام 94م هي العامل المباشر لظهور القضية، كما أن النظام العصبوي (العسكري والقبلي والديني) الحاكم في صنعاء لم يكن مؤهلاً للتحول إلى الدولة التي كانت شرطاً لاستمرار الوحدة، وهذا هو الجذر البنائي للقضية الجنوبية.
ولأن الحوار الوطني ليس مكاناً للمزايدات السياسية أو لتصيد الأخطاء، ولأن التاريخ سيسجل كلَّ حرف يكتب وكلَّ كلمة ستقال في هذا الفريق " فريق القضية الجنوبية " الذي يقع على كاهله إيجاد حل للقضية الجنوبية التي تعتبر المدخل لنجاح أو فشل مؤتمر الحوار الوطني، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على تسمية الأشياء بمسمياتها وتحديد مسؤولية الأطراف السياسية في صناعة القضية الجنوبية، سواء بالتقصير وحسن النية وعدم القدرة على فهم وتحليل المرحلة كما كانت عليه القيادة الجنوبية وقتها ممثلة بقيادة الحزب الاشتراكي، أو بالتآمر والنيات المبيتة للانقضاض على السلطة والثروة واعتبار الوحدة خطوة تكتيكية تمهيدًا لإخراج الشريك منها لاحقاً كما ظهر به نظام صنعاء العصبوي.
وحتى لا تكون رُؤْيَتُنَا مَجُرَّدَ كيل للتهم وتحميل للمسؤوليات بشكل عام فإننا سننتقل إلى تفصيل ذلك، معتذرين من الجميع عن الإطالة التي لا بد منها في مثل هذه اللحظات التاريخية المهمة، حيث لا يجب أن تأخذنا العجلة أو تدفعنا إلى الاجتزاء الذي قد يخرج الرؤية عن مضمونها؛ فالقضية الجنوبية بحاجة إلى دراسة معمقة تفكك عُقْدَهَا وتبحث عن مكامن الداء ليسهل العلاج.
ومن الجدير ذكرة أن مواقفنا المُعبر عنها في هذه الرؤية وكل مواقفنا من القضية الجنوبية عموماً ليست وليدة اللحظة أو الظرف السياسي, إنما هي مواقف مبدئية, اختطها السيد حسين بدر الدين الحوثي منذ بداية الأزمة في العام 1993م وعبر عنها وقتها في قبة البرلمان عبر مواقف رافضة للحرب, وبشكل واضح لا لبس فيه, مع أن الأجواء وقتها كانت مشحونة جداً في صنعاء والرأي العام مجيش ضد من يعارض الحرب, بل انه كان يُتَهم بالخيانة للوطن وللوحدة, لكن السيد لم يعر كل ذلك اهتماماً, بل أن الأمور وصلت الى أن قامت السلطة وقتها بقصف منزل علي مانع شافعة " المتعاطف مع الحزب الاشتراكي " في منطقة همدان بالأسلحة الثقيلة أثناء تواجد السيد حسين هناك, واتهمت السلطة السيد وشافعة بانهما يدعمان الحزب الاشتراكي والجنوبيين, وفي الوقت الذي صفق فيه الغالبية لقرار الحرب, كان صوت السيد حسين مع اصوات اعضاء الحزب الاشتراكي في البرلمان والقلائل من عقلاء هذا الوطن يقفون صفاً واحداً ضد الصوت العالي للحرب.
كما أننا ننوه إلى أن هذه الرؤية أقربُ للدراسة البحثية منها إلى رؤية طرف سياسي، فنحن لم نكن طرفاً في المشكلة أو الصراع السياسي في حينه, وقد رأينا أن تُلخِص رُؤْيَتُنَا أَهَمَّ الدراسات البحثية الموضوعية التي أعدت من قبل أحد أهم الكتاب”1” عن القضية الجنوبية، إيمانًا منا بمظلومية الجنوبيين، الذين هم في أمس الحاجة إلى الحقيقة والموضوعية في الطرح، لا إلى المجاملات السياسية أو التضامن الغير موضوعي.
كما أننا نعتبر أن رُؤْيَتَنَا شهادةٌ للتاريخ وليست بهدف الاصطياد في الماء العكر عبر إدانة طرف دون آخر أو كسب ود بعض الأطراف السياسية أو لمغازلة شارع معين؛ لذا فإن رُؤْيَتَنَا ستتضمن تحليلاً لأداء كل الأطراف السياسية المرتبطة بالقضية الجنوبية، وستتناول رُؤْيَتُنَا العناوين التالية :
أولاً : القضية الجنوبية..خلفية تاريخية
القضية الجنوبية هي نتاج فشل النخب السياسية اليمنية في تحويل وحدة 22 مايو 1990 السلمية الطوعية من حالة عاطفية شعبوية إلى مشروع سياسي نخبوي مجسد في دولة لكل مواطنيها..ومعنى ذلك أن العلاقة بينها وبين بناء الدولة علاقة ارتباط وضرورة.. فالقضية الجنوبية هي قضية بناء الدولة..وهي من هذه الزاوية القضية اليمنية المركزية الأكثر إلحاحا رغم الإيحاء الجهوي للتسمية.. وحلها يبدأ من البحث الجاد والموضوعي في أسباب ومظاهر فشل بناء هذه الدولة، وينتهي ببنائها فعليا على أرض الواقع.
وفيما يلي سنحاول تسليط الضوء على القضية الجنوبية باعتبارها اتجاهًا في السياسة يستقطب التأييد شمالا وجنوبا وليس جهة في الجغرافيا تهم ساكنيها فقط..كما وسنحاول إيضاح بعض الجوانب في هذه القضية نرى أنها غير مفهومة بما فيه الكفاية أو أن البعض يتعسف تفسيرها على نحو يخرجها عن سياقها الوطني العام إلى سياقات إلحاقية شمالا أو إنفصالية جنوبا.
لفهم القضية الجنوبية علينا أن نميز تحت مسمى اليمن بين اليمن الحضاري الثقافي واليمن السياسي.. الأول هو نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم المعروفة باليمن وتشمل أراضي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والمخلاف السليماني.. هذا التفاعل بدأ في لحظة ما من التاريخ واستمر حقبا زمنية طويلة ونتج عنه بروز جماعة بشرية اسمها الشعب اليمني..ولهذا الشعب هوية جامعة متعددة الأبعاد برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية لليمنيين.. ومن غير الجائز اختزال هذه الهوية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي.. واليمن الحضاري الثقافي واحد لا يقبل التجزئة، ولا يعترف بأي حدود سياسية داخل الجغرافيا اليمنية، وليس بمقدور الأفراد ولا الجماعات ولا حتى الدول أن ترسم له حدودا نهائية من هذا القبيل.. وإذا وجدت مثل هذه الحدود سيقاومها من جهتيها وليس من جهة واحدة عاجلا في المدى المنظور أم آجلا في المدى البعيد.. وهذه المقاومة هي وظيفته غير القابلة للتعطيل..وأي محاولة لتعطيلها هي الحكم على اليمن بعدم الاستقرار..واليمن الحضاري الثقافي يندرج في إطار اللامختار؛ لأن اليمنيين ليسوا أحرارا في قبوله أو عدم قبوله..إنه قَدَرُهُمُ الذي لا فكاك منه.. ومثلما لا يختار المرء أمه وأباه؛ فالشعوب لا تختار انتماءاتها الحضارية الثقافية.
هذا عن اليمن الحضاري الثقافي..أما اليمن السياسي فهو التعبير السياسي المجسد في دولة..وعلى هذا الأساس يكون اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل وتعبيراته السياسية هي الفرع.. والأصل كان واحدا دائما، بينما تراوحت تعبيراته السياسية بين الوحدة والتعدد في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث.. وهذه المراوحة كانت دائما نتاجا لصراع العصبيات على السلطة والثروة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن حينها قادرة على إسناد التاريخ بقدر كاف من الفاعلية التي تحول دون تعدد التعبيرات السياسية.. فعندما يكون مستوى التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا يكون هناك في الغالب الأعم تعبير سياسي واحد عن الكيان الحضاري الثقافي الواحد بغض النظر عما إذا كان هذا التعبير متوافقا مع الكيان أو مهيمنا عليه..وأقرب مثال على ذلك مصر التي حكمت دائما بدولة مركزية واحدة وأدى التساند القوي بين تاريخها وجغرافيتها إلى نشوء شعب متجانس نسبيا يعيش في منطقة مستوية على امتداد النيل..وبسبب هذا التجانس غدا من الصعب الحديث في مصر المعاصرة عن هيمنة ذات طابع عصبوي..أما في اليمن لم يكن التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا على النحو الذي كانته مصر.. ولهذا تعددت في كثير من الأحيان التعبيرات السياسية داخل الكيان الحضاري الثقافي الواحد..وعوضًا عن نشوء شعب متجانس نسبيا نشأ شعب تنازعته وحدة كيانه الحضاري الثقافي وتعددية تعبيراته السياسية.. ومن هنا جاءت الوحدة في إطار التعدد والتعدد في إطار الوحدة.. فاليمنيون شعب واحد تنتظمه ثقافة واحدة جامعة مع وجود ثقافات فرعية.. والتعدد هو مصدر غنى وإثراء مادي ومعنوي للمجتمع..لكن يمكن أيضا أن يكون عامل إفقار..وهذا يتوقف على طبيعة التعبير السياسي المهيكل في دولة واحدة..فحين تكون هذه الدولة متوافقة ومتسقة ومنسجمة مع تعددية اليمن الحضاري الثقافي يكون الثراء والغنى..أما إذا قامت على الغلبة والهيمنة وتهميش التعدد لصالح مكون عصبوي وأحد أو أكثر فإن الجغرافيا تكف عن مساندة التاريخ وتعود لتشتغل ضدا عليه..ويتجلى هذا الاشتغال من خلال تضخم الثقافات الفرعية وتحولها إلى آلية حمائية ضد الغلبة والهيمنة والتهميش.. وكلما تطرف المركز في ممارسة الغلبة والهيمنة والتهميش والإقصاء كلما تضخمت الثقافات الفرعية وتطرفت في المقاومة..وفي حالات اليأس تحاول الثقافات الفرعية إعادة تعريف نفسها بطريقة تعسفية كما لو كانت ثقافة مختلفة نوعيا في مواجهة الثقافة الجامعة: سواء أدركت ذلك أم لم تدرك..ولأن إعادة التعريف غير ممكنة ثقافيا بسبب عدم القدرة على الفكاك من واحدية اليمن الحضاري الثقافي فإن ما يتم عمليا هو الاستنجاد باليمن السياسي واستدعاء تعدديته للتخلص من التهميش والإقصاء المتدثر بالوحدة..لهذا يلاحظ على الخطاب المقاوم للتهميش والإقصاء أنه سياسي دائما وليس ثقافيا..