الشمال والجنوب.. ومقولة الأصل والفرع

2020-12-24 22:49

 

قد يقول قائل إن حكومة المناصفة بين الشمال والجنوب، التي أعلن عنها قبل يومين تمثل حدثاً سياسياً لافتاً من صناعة حكام الأرض، نقول هذا صحيح؛ ولكن هذه الحكومة أيضاً توحي بتدخل حاكم السماء والأرض، نحو إرساء منهج العدالة السماوية، التي طالما انتظرها شعب الجنوب، لتصدع وتصدح بقول الحق والمساواة، في وجه قوم تجردوا منها، وتجبروا ظلماً وعدواناً، وصار الباطل قولاً وعملاً هو ديدنهم الذي عرفوا به.

 

ظل هذا الظلم الذي مارسته زعامات الشمال الغاشمة بحق الجنوبيين يبطش بكل ماله صلة بالجنوب، من موارد بشرية واقتصادية، بحجة عودة الفرع(الجنوب) إلى الأصل(الشمال)، ومن حق الأصل أن يقرر مصير فرعه أو ما يراه مناسباً فيه، وهي، بكل تأكيد، تهدف لشرعنة حملة النهب والإقصاء بحق الجنوب والجنوبيين.

 

هذه المقولة تفسر ما حل بالجنوبيين بعد الوحدة ليس سوى استعادة الوضع الطبيعي لما كان وما هو مفترض أن يكون، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأتي هذه المقولة في محاولة لنسف وطمس هوية الجنوبيين وخصوصيتهم الثقافية والاقتصادية والجغرافية، ومحاولة فرض واقع إجباري وهمي في مخيلة الجنوبيين يتمثل في فقدانهم لأي خصوصية شعبية، بل هم لا شيء أمام الطرف الأصل في المعادلة(الشمال)، ومن ثم يصبح الشمالي مقارنة بالجنوبي كمقارنة الفرض بالنافلة، أو مقارنة أصل الولد بالوالد، بل لا مجال للمقارنة أصلاً.

 

من هذه المقولة فرض جبابرة قبيلة الشمال وعتاولتها حكماً عسكرياً وقبلياً وعنصرياً قاسياً بحق الجنوب وأبنائه، فكانوا شر بلية وشر نكالاً ووبالاً عرفه الجنوبيون في تاريخهم.

 

على هذه الشاكلة، وتحت مفهوم هذه المقولة، أقصي الجنوبيون، وأصبحوا يطاردون في مدنهم وقراهم وفي منازلهم، من قبل عناصر الطرف(الأصل)!!.

 

أحكم هذا الطرف قبضته على هذا الحال لما يقارب ثلاثة عقود.

 

وخلال هذه العقود لم يستكين الجنوبيون أو يرضخوا لفكرة(الأصل والفرع)، بل قوبلت برفض شعبي مستمر تبلور في أساليب نضالية مختلفة سلمية ومسلحة، منذ الأربع السنوات الأولى لوحدة الضم بين (الأصل وفرعه!)، وقدموا في مسيرة نضالهم الرافض للضم والإلحاق القرابين الباهظة، في سبيل دعوة عدالة السماء للإطاحة بظلم أهل الأرض(الأصل).. قرابين تضرع بها الجنوبيون بكل إخلاص وتضحية، بدماء سفكت، وأرواح زهقت، لآلاف مؤلفة من خيرة شباب الجنوب ورجاله.

 

وها هي عدالة حاكم الأرض والسماء قد استجابت، فنزلت بحكم عزيز مقتدر، لتضع حداً لمهزلة الطغاة الظالمين واهتراءاتهم، وتطيح بشر مقولة عرفها الجنوبيون في تاريخهم (عودة الفرع إلى الأصل).

 

رأينا حكومةً تشكلت مناصفةً شمالاً وجنوباً، في لحظة تاريخية نادرة، أُخرست فيها ألسن دعاة الأصل والفرع، ونكست جباههم، أمام عظمة الند الآخر الأصيل، وأمام عدالة رب السماء التي ثأرت لشعب ذاق ويلات الحياة، وتجرع مرها لردح من الزمن، تحت مقولة نظرية مفلسة، صارت منهجاً وتطبيقاً لدى دعاتها المفلسين من قيم العدالة والإنسانية.

 

عدالة وضعت الجنوبيين في كفة، ووضعت الشماليين في كفة أخرى مماثلة لها، ليس هناك فرع ولا أصل، إنما فكرة الأصل بالأصل والند بالند والنظير بالنظير.

 

وهي فكرة توحي بأن الطرفين أصلان لكل منهما خصوصياته ومساراته التاريخية والثقافية والسياسية، ومن الأجدى أن يسيران في خطين متوازيين، يحافظ كل منهما على خصوصيته، دون إلحاق أو ضم أو أذى للآخر.

وما حكومة المناصفة بين الشمال والجنوب، إلا الخطوة الأولى في هذا المسار، بعدما أصبح معبداً أكثر من أي وقت مضى، لأن يستوعب خطين متوازيين متجاورين، يقومان على فكرة احترام أصالة الآخر وهويته وخصوصيته..