جرى التكتم بين ٢٢ و ٢١ مايو1990

2025-05-21 18:46

 

يوم ٢٠ مايو ١٩٩٠م جرى إبلاغ جميع الموظفين الحكوميين والحزبيين والعسكريين والقادة النقابيين وقادة منظمات المجتمع المدني في عدن والمحافظات المجاورة بضرورة الحضور إلى عدن صبيحة ٢٢ وارتداء بدلات رسمية مع ربطات العنق، حيث إن هذه الربطات لا تستخدم في عدن إلا نادراً، ليس لأن الجنوبيين لم يعرفوها إلا بعد ٢٢ مايو، كما تهكَّم معنا ساخراً أحد الزملاء النواب الشماليين ذات يوم، ولكن لأن الأجواء الساخنة في عدن تجعل من ارتداء ربطة العنق انتحاراً طوعياً عن طريق الاختناق.

لم يبلغونا بغرض التجمع لكن التوجيه كان صارماً ولم نعلم بغرض التجمع إلا بعد صعودنا الحافلات التي أقلت االجميع إلى القصر الرئاسي ومشاهدة الجنود والضباط وطبعاً القادة الشماليين ممن كنا نعرف صورهم عن طريق التلفاز، وبدء مراسيم  الإعلان.

لقد جرى التكتم على إعلان بيان الوحدة الاندماجية وكأن حدثا مشبوهاً أو مريبًا سيجري في ذلك اليوم.

                         *    *   *

لم يستمر شهر العسل طويلاً إذ لم تدم الفرحة أشهرَ حتى جاءت محاولة اغتيال واحد من أشهر السياسيين االجنوبيين واليمنيين، الأستاذ عمر الجاوي رئيس اتحاد الأدباء واالكتاب اليمنيين لعدة مرات ومؤسس حزب التجمع الوحدوي اليمني، في عملية قُتِل فيها زميله في الحزب والسفير السابق الشهيد حسن الحريبي الله يرحمه، وتلت ذلك (وربما سبقته) محاولة اغتيال وزير العدل (الجنوبي ثم اليمني) الأستاذ عبد الواسع سلام وهو قيادي في الحزب الاشتراكي اليمني، الشريك الجنوبي في اتفاق نوفمبر ١٩٨٩م وإعلان ٢٢ مايو ١٩٩٠م الذين بموجبه أعلنت الجمهورية اليمنية، . . . ثم توالت الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي كانت تستهدف القادة والكوادر والجنوبيين، حتى وصلت إلى الهجوم على منزل رئيس الوزراء ومنزل رئيس مجلس النواب، بل ومنزل العضو الجنوبي في مجلس الرئاسة، وتضاعف عدد ضحايا الاغتيالات ليصل إلى ما فوق المائة وخمسين شهيداً جنوبياً، ربما لم يكن آخرهم الشهيد هاشم العطاس ابن أخت رئيس الوزراء حينها الرئيس حيدر أبوبكر العطاس والشهيد ماجد مرشد مستشار وزير الدفاع وعضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني ، وهذا الأخير تمت تصفيته جسدياً وهو جريح داخل معسكر الأمن المركزي بمسدس رئيس الأمن حينها شقيق الرئيس محمد عبد الله صالح، والد طارق محمد عبد الله صالح العضو الحالي في مجلس الرئاسة اليمني الذي يحكم الجنوب.

كانت الاغتيالات جميعها تُقَيَّد ضد مجهول، وكان الجميع يعلم أنها تحمل رسالة سياسية واحدة للقادة الجنوبيين فحواها إن أرواحكم في أيدينا وأنه لا أمان لكم جميعاً في بلادنا وما أنتم إلا ضيوفاً غير مرغوبٍ بكم.

لم تكن حرب 1994م وغزو الجنوب وإسقاط دولته والتنكيل بأهله ونهب ثرواته والعبث بموارده وتحويله بأهله ومنشآته وتاريخه وهويته وثقافته وتراثه وكل ما فوق أرضه وما تحتها إلى غنيمة جرب بيد المنتصرين، كل هذا لم يكن إلا نتيجة طبيعية لكارثة 22 مايو التي جرت صياغتها بطريقة عشوائية لا تخلو من الحيلة والمكر والخداع مع (الكلفتة) والاستدراج، وكان ما كان من الكارثة التي أعادة الجنوب عشرات السنين إلى زمان (الهَجَر) و(الزَقَر) و(نحر الثيران) و(المُسَبَّع) و(المُثَمَّن) و(المُحَدَّعْشْ) وتجارة السلاح والتباهي بالقتل والإجرام وكل الموبقات التي تلت جريمة 1994م.

                        *     *    *

كان إعلان 21 مايو 1994م محاولة مقبولة ومعقولة وجائزة ومشروعة ومحقة لأي قيادة سياسية تتعرض للغدر والخديعة والاستهداف المباشر هي وشعبها للقضاء والتصفية بكل معنى الكامل للكلمة، لكن هذا لا ينفي أنها كانت عشوائية ومتعجلة وغير مدروسة بعناية من قبل القيادة الجنوبية حينها برئاسة المناضل علي سالم البيض وزميله الأستاذ عبد الرحمن الجفري الذين أصبحا رئيساً ونائباً لرئيس الجمهورية التي أعلناها تحت قصف الطيران ودوي المدافع واجتياح المدن والقرى بالدبابات والفيالق الهمجية من القبائل و(دواعش ) ذلك الزمن الذين كانوا يسمون تهذيبا بــ"الأفغان العرب" المتقاطرين إلى صنعاء من كل أصقاع الوطن العربي بعد أن أنهوا مهمتهم في تدمير أفغانستان.

ولم يختلف إعلان 21 مايو عن زميله إعلان 22 مايو إلا في التوقيت والهدف، فالأول استهدف ابتلاع الجنوب، والثاني كان يحاول منع هذا الابتلاع والذي قال عنه الدكتور عبد الكريم الإرياني "إنه (أي الابتلاع) قد تم لكن الهضم لم يتم بعد" فالإعلانان كانا عشوائيين غير مدروسين ولم يتم الإعداد لهما بما يكفي من المهارة والتدقيق في توازن القوى وممكنات النجاح واحتمالات الفشل، ومع ذلك يظل يوم 21 مايو ذكرى حاضرة في الذهنية والوجدان الجنوبيين مثلها مثل أية ذكرى لمحاولة تَحَرُّرٍ بُنِيَت على غايات نبيلة وأهداف سامية لكنها تعرضت للإخفاق والنكوص بسبب عدم نضج الظروف وتهيئة ممكنات النجاح.

إن درس 22 مايو كان قاسياً ومؤلماً بكل ما تحمله مفردتا القساوة والألم من معاني، ومن هذا الدرس على شعبنا الجنوبي وقواه السياسية أن يتعلموا أن الحق لا تصنعه النوايا الحسنة، وأن الخصم الغشوم مهما اتفقت معه ومهما قطع على نفسه من وعود وتعهدات ومواثيق فإن الغدر بها وبمن يتفق معه عليها عنده أهون من شربة الماء، وأن الهزيمة هي رديف الانقسام والتفكك وتمزق الصف الوطني وابنهم الشرعي، وأن الزهو والغرور حتى لو اعتمد صاحبهما على القوة والأهلية وضمانات الانتصار المادية والمعنوية لا يمكن أن يبلغا الغايات النبيلة، لأن بلوغ هذه الغايات لا يتأتى إلا من خلال التعبير عن تطلعات السواد الأعظم من جماهير الشعب، فالشعب هو كاتب التاريخ وصانع انتصاراته وما القيادات السياسية والعسكرية وحتى الاستثنائية منها (وليس لدينا استثنائيون في الجنوب) ما هذه القيادات إلا خُدَّام لدى هذه الشعب بكل قطاعاته وتوجهات  وفئاته الاجتماعية وأطيافه السياسية المتفقة أو المختلفة مع تلك القيادة ومن لم يتعلم هذه الدروس وستوعب ما فها من العبر والخبرات لا يمكن أن يكون مؤهلاً لممارسة السياسة.