كيف تعمل الشرعية من عدن لجعل "استعادة دولة الجنوب" مشروعا غير واقعي؟

2025-07-15 11:50
كيف تعمل الشرعية من عدن لجعل "استعادة دولة الجنوب" مشروعا غير واقعي؟
شبوه برس - متابعات - اخبارية

 

"الوحدة" انتهت عمليا.. ومشروع"استعادة دولة الجنوب" مهدد بمصير مشابه

 

*- شبوة برس - وهيب الحاجب صحيفة الأيام 

> تشهد محافظات جنوبية، وتحديدًا حضرموت وأبين، تزايدًا ملحوظًا في الأصوات المطالبة بالحكم الذاتي.. هذا التحول في الواقع الجنوبي لم يكن وليد اللحظة، لكنه نتيجة لتراكمات سياسية واقتصادية وأمنية، أبرزها انهيار الخدمات الأساسية وتردي الوضع المعيشي الذي بلغ حد المجاعة في بعض المناطق، إضافة إلى الإحباط من أداء المجلس الانتقالي الجنوبي، الشريك الأساسي في الشرعية اليمنية.

 

شعر المواطن الجنوبي أن المشروع السياسي الذي رفع شعار "استعادة الدولة" قد تحوّل، في نظر كثيرين، إلى وسيلة للمعاناة والتجويع بدلاً من أن يكون أداة لتحسين حياتهم. وهنا تكمن المفارقة.. ففي الوقت الذي كان يُنتظر من المجلس الانتقالي أن يستغل موقعه في الشرعية اليمنية لبناء مؤسسات جنوبية وتعزيز نفوذ الجنوب داخل الحكومة، وجد أبناء الجنوب أنفسهم في مواجهة يومية مع الفقر وانعدام الكهرباء والماء وانهيار قيمة المرتبات وانقطاعها. هذا الفشل في تلبية الاحتياجات الأساسية خلق بيئة خصبة لنمو حركات محلية داخل الجنوب داعية إلى حكم ذاتي، بوصفه حلاً واقعياً لما يمكن أن نسميه بـ"عجز المركز الجنوبي" عن تمثيل الجنوب والعمل على رفع معاناة الجنوبيين.

 

التحركات نحو الحكم الذاتي لا يمكن فصلها عن محاولات قوى الشمال، وعلى رأسها أطراف نافذة داخل حكومة المناصفة ومجلس القيادة الرئاسي، لإعادة صياغة المشهد الجنوبي بما يخدم مصالحها، فبالتوازي مع استغلالها لفشل المجلس الانتقالي في إدارة ملفات الخدمات بعدن والجنوب، قامت قوى الشمال بتبني استراتيجية مزدوجة تتمثل بدعم مبادرات انفصالية محلية في حضرموت، وتمويل مليشيات مسلحة هناك، وفي الوقت ذاته، التغلغل في مؤسسات الدولة على أرض الجنوب بهدف إرباك أي جهود جنوبية لبناء كيان موحد.

 

استراتيجية "تفكيك الجنوب من الداخل" بدت أكثر وضوحاً في حضرموت، حيث تغذّت النزعة الاستقلالية على خطاب مناطقي منسق، يُراد له أن يُبعد المحافظة عن المشروع الجنوبي الجامع. ولم يكن الهدف الحقيقي تمكين حضرموت من إدارة شؤونها، بل إضعاف المجلس الانتقالي وإحباط أي مسعى لتوحيد الجنوب تحت راية واحدة. هذا النموذج يُعاد إنتاجه حاليًا في محافظات أخرى مثل أبين، ما ينذر بتشظٍّ خطير وانقسام في الجسم الجنوبي قد يصعب السيطرة عليه مستقبلاً.

 

قوى الشمال وبدعم من "الشرعية اليمنية"، تستخدم اليوم أدواتها الناعمة من داخل الحكومة ذاتها لضرب المشروع الجنوبي، وذلك عبر إعادة إظهار أو إنتاج الجنوب في صورة كنتونات متنازعة وضعيفة، وإفشال أي مسعى لتوحيد الصف الجنوبي أو بناء مؤسسات مستقلة.. هذا التمترس داخل مؤسسات الدولة، واستخدامها كمظلة لتقويض الجنوب من الداخل الجنوبي، يمثل أخطر مراحل الصراع، لأنه يتم تحت عباءة "الشراكة" الظاهرة، بينما يحمل في باطنه مشروعاً لتفكيك الجنوب وإفراغ مشروع استعادة الدولة من مضمونه الوطني.

 

لفهم دوافع الحراك الحالي نحو الحكم الذاتي لا بد من العودة إلى الجذر الحقيقي للصراع اليمني، الذي غالبًا ما يُخفى خلف عناوين سياسية متعددة، فالقضية اليمنية في جوهرها هي صراع بين مشروعين هما "مشروع فرض الوحدة بالقوة بعد حرب 1994"، و"مشروع استعادة دولة الجنوب" التي كانت قائمة قبل الوحدة.

 

هذا التناقض البنيوي ظل يُهيمن على مسار الصراع، فرغم محاولات قوى إقليمية ودولية تأطيره ضمن معادلة نفوذ وتحالفات إلا أن ما لم يتغير هو أن الوحدة، التي تمت نظريًا في 1990، انتهت فعليًا بحرب بشعة، وتحولت بعدها إلى شكل من أشكال الاحتلال الشمالي للجنوب.. هذه الخلفية التاريخية تُفسر لماذا بقيت جذوة الحراك الجنوبي مشتعلة، رغم تغير المعادلات السياسية وتبدّل التحالفات.

 

منذ انطلاقة ثورة الحراك الجنوبي، سعى الطرف الشمالي إلى إضعاف الحراك ليس فقط بالقوة العسكرية، بل عبر تفجير الصراعات الداخلية بين الجنوبيين أنفسهم، مستغلًا مأساة 1986 وغيرها من أحداث الماضي لخلق حالة من الانقسام المناطقي. غير أن الجنوب، عمد إلى مشروع "التصالح والتسامح" الذي أعاد توحيد صفوف الجنوبيين وأربك حسابات الشمال. لكن أدوات الماضي في التقسيم لم تعد كافية، فلجأ الطرف الشمالي اليوم إلى وسائل أكثر تعقيدًا، مثل التمويل الانتقائي لبعض الكيانات المحلية، واستغلال المؤسسات الحكومية من الداخل لعرقلة مشروع الاستقلال الجنوبي. المفارقة أن الطرف الشمالي، رغم تمزقه إلى مليشيات وجماعات متناحرة، لا يزال يلتقي عند هدف مشترك هو استعادة الهيمنة على الجنوب، حتى وإن تم ذلك تحت شعارات "الوحدة" أو "الشراكة".

 

تغيرت موازين القوى بشكل دراماتيكي بعد عام 2015، لا سيما عقب انطلاق عاصفة الحزم وتمكن الجنوبيين من طرد الحوثيين من أغلب محافظاتهم. هذا التحول منح الطرف الجنوبي وزنًا سياسيًا وعسكريًا غير مسبوق، إذ لم يعد صوت احتجاجي على هامش المعادلة بل تحول إلى قوة أمر واقع تدير الأرض وتؤمنها وتمتلك جيشًا وأجهزة أمن بدعم من التحالف العربي. وفي المقابل تحولت قوى الشمال إلى كيانات هشة، فشلت في الحفاظ على مؤسساتها، وغدت أطرافا منهزمة فارة تبحث عن مأوى في الجنوب الذي كانت تحتله بالأمس.. هذه المعادلة الجديدة منحت الجنوب اليد العليا، لكنها في الوقت نفسه جعلته هدفًا رئيسًا لكل من يسعى لإعادة تدوير الصراع بما يحول دون استكمال مشروع استعادة الدولة الجنوبية.

 

تزايد الأصوات المطالبة بالحكم الذاتي في محافظات الجنوب اليوم لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق السياسي العام الذي أفرغ مشروع استعادة الدولة من مضامينه العملية، وحوّله إلى حالة من الترقب والخذلان الشعبي. كما أن فشل الانتقالي في تحويل مكاسبه العسكرية إلى منجزات خدمية أو سياسية ملموسة عمّق الإحباط، وفتح المجال أمام مشاريع مناطقية قد تتحول إلى بدائل واقعية في حال استمرار العجز القائم.

 

في المقابل فإن مراكز النفوذ في الشمال توظف هذا الوضع لتفتيت الجنوب من الداخل عبر أدوات سياسية وخدمية واقتصادية، في محاولة لإفشال المشروع الجنوبي باستنزافه شعبياً وليس فقط عسكرياً أو سياسياً، وبالتالي فإن أي قراءة استراتيجية لمستقبل الجنوب يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن "الوحدة" لم تعد خياراً واقعياً، كما أن "مشروع استعادة الدولة الجنوبية" بات مهددا بالمصير نفسه الذي آلت إليه "الوحدة" ويواجه مخاطر بأن يصبح "غير واقعي" ما لم ينهض الانتقالي لتصحيح المسار ويجتهد لتحقيق اختراق فعلي في بناء مؤسسات الدولة وتوفير الحد الأدنى من الخدمات، لتجنب الجنوب من الانزلاق نحو صراعات داخلية أو موجات انقسام مناطقي يصعب السيطرة عليها.

 

ختاما هكذا يبدو المشهد.. الطرف الشمالي مستمر في رهانه على الوقت وعلى تفكيك الخصم من الداخل، ليضع المجلس الانتقالي أمام اختبار مصيري، إما إصلاح أداءه السياسي وفرض قراره داخل الشرعية لرفع معاناه أبناء الجنوب أو خسارة ما تحقق من مكاسب سياسية وعسكرية، لصالح مشاريع مناطقية ضيقة قد تنتهي بتفتيت الجنوب مجددًا أو لصالح قوى الشرعية اليمنية وإعادة تمكينها من الهيمنة والوصاية على الجنوب، وفي كلا الاتجاهين فإن الوضع سينحو إلى اتجاه خطير يتجاوز الاحتجاجات ضد طرفي الحكومة إلى انتفاضة ضد المتحكم بقرار الشرعية من خلال حركة شعبية جامعة لن تستطيع أي من الأطراف ولا حتى التحالف السيطرة عليها أو احتواءها وقمعها.