*- شبوة برس - حافظ الشجيفي
في سجل الأمم، تظهر وتختفي الدول، تتقلص الإمبراطوريات وتتوسع، وتتغير الخرائط السياسية بتغير موازين القوى. ولكن هناك ثابت واحد يقاوم زوال الممالك وانهيار الجمهوريات: الجغرافيا. إنها الإطار الصلب الذي ترسم عليه الشعوب قصصها، والشاهد الأبدي على من جاء ومن رحل. وقصة ما يُعرف اليوم بـ"الجنوب العربي" هي النموذج الأكمل على هذه المعادلة، حيث تتعرض الهوية السياسية للزوال بينما تبقى الهوية الجغرافية شاهداً وحكاية.
قبل عام 1967، لم تكن هناك "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" ولم يكن هناك كيان سياسي مستقل يحمل اسم "الجنوب العربي" ذاته. فما كان موجوداً هو رقعة جغرافية ممتدة على مضيق باب المندب الاستراتيجي، تشكل الجنوب الحقيقي للوطن العربي الكبير. هذه الرقعة، والتي خضعت لسيطرة الاستعمار البريطاني تحت مسمى "محمية عدن"، كانت تفتقر إلى الهوية السياسية الجامعة، ولكنها لم تكن تفتقر أبداً إلى هويتها الجغرافية المتجذرة.
هنا يكمن لب الإشكال المنطقي: كيف نسمي أرضاً قبل قيام دولتها؟ الإجابة التاريخية والفلسفية واضحة: نسميها باسمها الجغرافي. فالهوية السياسية (كجمهورية أو مملكة أو اتحاد) هي بناء بشري طارئ، قد يزول بزوال النظام الذي أقامه. بينما الهوية الجغرافية هي حقيقة قائمة بذاتها، لا تحتاج إلى قرار سياسي أو اعتراف دولي لتوجد.
اذ لم يكن يُطلق على سويسرا "الكونفدرالية السويسرية" قبل قيامها، بل كان اسمها الجغرافي "أراضي جبال الألب". ولم تكن سنغافورة "جمهورية" قبل استقلالها، بل كانت "جزيرة في مضيق ملقا". فالتسمية السياسية تتبع قيام الدولة، وليس العكس.
ومع انسحاب القوات البريطانية في 1967 من هذه المنطقة ولدت هوية سياسية جديدة هي "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، التي تحولت لاحقاً إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". هذه الهوية، رغم شرعيتها الدولية آنذاك، كانت هوية نظام سياسي – نظام اشتراكي، شمولي في كثير من مراحله، تميز بتحالفات خلال الحرب الباردة. فقد كانت تجسيداً لفكرة سياسية في زمان ومكان محددين.
وبناءً على ذلك، كان سقوط هذه الجمهورية مع تحقيق الوحدة اليمنية في 1990، ثم حرب صيف 1994 وما تلاها من هيمنة للنظام السياسي الشمالي، بمثابة زوال لتلك الهوية السياسية الخاصة. حيث ذاب النظام السياسي الجنوبي وضُمت مؤسساته، تماماً كما ذابت هوية "ألمانيا الشرقية" السياسية والاشتراكية بعد سقوط جدار برلين واندماجها في "ألمانيا الموحدة". واليوم، لا أحد يقول "ألمانيا الشرقية" إلا كإشارة تاريخية، لأن الهوية السياسية زالت، ولكن الإشارة الجغرافية ("شرق ألمانيا") تبقى صحيحة.
اليوم، يعيش سكان هذه الجغرافيا – الجنوب العربي – تحت سيطرة دولة مركزية (اليمن) في وضع "الاحتلال"، بعد أن صودرت دولتهم السابقة وذابت هويتهم السياسية. في هذه اللحظة بالذات، حيث يغيب الكيان السياسي المستقل، تبرز الهوية الجغرافية كملاذ أخير وكرابط هوياتي جامع.
هذه الظاهرة ليست فريدة. فـ"كردستان" هي هوية جغرافية قومية لأمة لم تحظ بدولتها المستقلة بعد، ولكنها تظل هوية جامعة لملايين الأشخاص عبر أربع دول. اسمها جغرافي ويشير إلى أرضهم بغض النظر عن حدود سايكس-بيكو التي قسمتهم.
البرهان الأقوى على قوة وقبول الهوية الجغرافية كأساس للهوية السياسية هو حالة جنوب أفريقيا. اسم الدولة رسمياً هو "جمهورية جنوب أفريقيا". فقد جمعت بشكل متقن بين وصفها الجغرافي (الموقع في أقصى جنوب القارة الأفريقية) وبين نظامها السياسي (جمهورية). حيث لم يمنعها موقعها الجغرافي من أن تكون هويتها السياسية، بل عززها. ولم يقل أحدا أن الاسم "جغرافي" فقط وغير سياسي. فقد أصبح الجغرافي سياسياً.
هذا هو الجوهر: الهوية الجغرافية يمكن أن تكون وعاءً مثالياً للهوية السياسية عندما تتحرر الإرادة وتقوم الدولة. والجنوب العربي اليوم هو هوية جغرافية لأرض محتلة وشعب يطالب بحقه في تقرير المصير. وإذا ما حصل هذا الشعب على دولته المستقلة في المستقبل، فسيصبح من حقه أن يسميها بما يشاء: "جمهورية الجنوب العربي"، "دولة عدن او حضرموت او اليمن"، أو أي اسم آخر. ولكن الأساس سيبقى أن هذه الدولة قامت على أرض لها اسم جغرافي ثابت ومعروف هو الجنوب العربي.
الخلاصة المنطقية التي تفرضها الجغرافيا والتاريخ معاً هي أن الأسماء السياسية تزول، ولكن الأسماء الجغرافية تبقى. الجنوب العربي هو الحقيقة الأكثر دواماً من أي جمهورية جاءت أو ذهبت. وهو اليوم ليس مجرد ذكرى من الماضي، بل هو هوية حاضرة لحلم مستقبلي، وشاهد على أن الأرض، في النهاية، هي الوعاء الدائم للشعوب، وليست الأنظمة العابرة.